الاثنين، 1 ديسمبر 2014

بدر البدور

بدر البدور
 
جلست أم بدور في ظلال أشجار حديقتها الوارفة ..تلك الحديقة التي رعتها بنفسها ....كانت تحرص على متابعة المزارع المختص بنفسها ..كانت تستشعر بروح الأمومة يسري بينها وبين المزروعات ..ورودها البيضاء زرعتها بعناية فائقة ..رصتها بجانب الورود الحمراء... بجانب الورود الزهرية ..كانت تشعر بفرحة الزهور بقدومها فهي تحنو عليها  حنو المرضعات على الفطيم...عقدت صداقة حميمة فيما بينهما ..لذلك كانت تستشيط غضبا إن أُهملت رعايتها ..فكيف إن داس أحد أبنائها عليها!!... جلست في ذلك اليوم  عصرا.. تقرأ كتابا من بين الكتب التي تحبها تريد أن تكون سعيدة دائما فهي تقرأ كتاب (أسعد امرأة في العالم ) وبينما هي تسبح بالخيال مع عبارات الكاتب الرائعة ..إذا بابنتها بدور تهرول من بعيد .....تتخطى الزهور والأعشاب المنتظمة على جانبي رصيف الحديقة .....تدوسها بكل عنف .. تدوسها غير مكترثة بما تصنع ..تلوح برأسها يمنة ويسرة ..هي تعبة من الهرولة ..تركض وشعرها البني الحريري يتطاير مع الرياح ...هي تحمل خبرا هاما لوالدتها ..ظنت أن الخبر الذي تحمله ..يسمح لها أن تتخطى كل الحواجز ...تركض  غير آبهة بما تفعل ...منظر أذهل الأم ..عقد لسانها ..حاولت أن توقف جريان ابنتها المدللة التعسفي ولكن دون جدوى ...ها هي قد وصلت ..وقفت  لاهثة ... وقفت لتستريح من هرولتها ..وضعت يديها الطريتين على ركبتيها ..وصارت تأخذ نفسا عميقا نفسا تلو الآخر..شهيق وزفير ..تحاول أن تتكلم ولكن الحروف المبعثرة التي خرجت من فيها مازالت مبعثرة ..لم يُفك طلاسمها بعد .. ....لم تهتم بما فعلت هي تظن أن الخبر الذي جاءت به أهم من كل الزهور ...رمقتها الأم بنظرات غاضبة .. نهرتها قائلة لها ..انظري وراءك ..نظرت بدور خلفها.. حدقت في طريق سيرها ..تفاجأت بما أحدثته ....وجدت زهور الحديقة مبعثرة والرمال متناثرة ..الورود مكسرة ..زهور بألوانها الرائعة ..افترشت الأرض تلفظ آخر أنفاسها ....إنها تحتضر ...سألتها الأم :هل أنت راضية يا بدور عن الخسائر الذي سببته.... .فتعثرت  و أبت الكلمات أن تخرج سليمة من فيها ..ن ن نعم يا أمي..و لكن.. و لكن ..تهز الأم و قالت لها مزمجرة  ..أما احتمل الخبر الذي جئت لتخبريني به ... أن تسيري في المكان المخصص للسير عليه .. ..لمَ تخطيتِ الحواجز و قمت بالسير داخل المزروعات؟؟......لم دست الزهور التي كم وكم تعبت بزراعتها وترتيبها وتنسيقها مع المزارع .. لقد أضعت مجهوداتنا  بعجلتك هذه..و هذه ليست المرة الأولى  .. أليس كذلك يا بدور ؟؟ كم مرة قمت بهذا التصرف !و كم مرة سامحتك! و كم مرة قطعت على نفسك الوعود  و العهود على ألا تعودي لفعلتك هذه ؟! لكن عهودك كنت تكتبينها على الماء....سامحتك كثيرا و لكن هذه المرة لن أسامحك...أتظنين نفسك صغيرة أنت في الصف الثاني الابتدائي ..لست طفلة أنت يا بدور ....ستظلين حبيسة غرفتك..و لن تخرجي للعب مع صديقاتك في عطلة نهاية الأسبوع .. ما رأيك بهذا العقاب يا بدور ؟! نظرت بدور بيأس و حزن إلى والدتها .. وأطلقت العنان لدموعها بالانهمار فتحت فاها على مصراعيه وانفجرت بالبكاء .....حاولت الاعتذار أثناء نوبة البكاء التي بدأت بها..حاولت  أن تظهر الأسباب ..فالأمر ليس بمقدوره أن تصبر عليه دون أن تخبرها إياه.....لم تقتنع الأم بعذرها....و أصرت على معاقبتها..سحبتها بيدها و سارت بها إلى داخل البيت و أدخلتها غرفتها و طلبت من الخادمة ألا تخرجها إلا للضرورة القصوى و أغلقت الباب عليها....طرقت بدور الباب عدة مرات ..عادت أمها لها محذرة إياها من عقاب أشد ....لو لم تهدأ....سأحرمك من الحلوى التي تحبين ..ردت بدور..اسمعيني يا أمي قبل أن تحاكميني..نعم اعترف بذنبي و لكن الأمر جدا خطير..نظرت الأم متفحصة وجه ابنتها و قالت في نفسها يبدو أن الموضوع خطير لاستمع إليها...جلست على أريكة جلسة المُغضب.. ثم قالت هات ما لديك..ماذا هناك؟؟ ..انفرجت أسارير بدور..بدأت بمسح دموعها المتسربة من عينيها وأنفها .. و بدأت تقص على أمها الحكاية.. ..سمعت يا أماه ابن جيراننا وهو يتحدث بهاتفه النقال.. .. و قبل أن تكمل بدور حديثها ..قاطعتها الأم بغضب عدت للتنصت ثانية على الجيران يا بدور.. ..أما نهيتك عن ذاك التصرف؟؟أما قلت لك عاقبة التجسس؟؟ ألم تعديني ألا تعودي ؟؟ لم تحرصين على عصيان أوامري....أطرقت بدور رأسها معبرة عن ندمها و أسفها ثم قالت : صدقيني يا أماه ..هذه المرة..صوت ابن الجيران كان عاليا و أنا كنت بجانب السور ألاحق الفراشات المتطايرة ..كان صوته عاليا دخل أذني دون استئذان....تعرفين أن صوت خالد ابن جيراننا مزعج جدا ...
المهم يا أماه أن ابن جيراننا اتفق مع صديقه على سرقة إحدى المحال التجارية..يريد أن يعطي المال للفقراء ..هكذا قال .. ..ردت الأم هو قال ذلك؟؟ ....ردت بدور نعم يا أماه هو عينه ..سمعته يتفق مع صديقه  اليوم الساعة الثامنة مساء ..سيرتدي قبعة إذا كان الأمر ميسورا للسرقة وسيخلع القبعة إن كان الأمر غير آمن ..صدقيني يا أمي سمعته بأذني ...وهذه ليست المرة الأولى ..فقد كان واثقا من أن خطته ستنجح وأنه قد راقب هذا المحل وصاحبه رجل عجوز ..لا أحد يساعده في المحل ..هكذا قال لصاحبه ...احتارت الأم فيما سمعته من ابنتها فالساعة الآن السادسة مساء ..قالت في نفسها ..مسكينة أم خالد لقد ابتلاها الله في هذا الولد ..كم شكت من سوء تصرفه عند سفر والده خارجا فعمل والده يتطلب منه أن يكون جُل وقته خارج البلد ..ماذا أفعل الآن لابد أن أتصرف ..اتصلت بزوجها على الفور ..فأبو بدور يعمل في الشرطة ..طلبت منه الحضور فورا ...فالجار للجار ..جاء أبو بدور على عجل ..وما إن دخل حديقة المنزل ورأى الورود مبعثرة أصابه الرعب ..أيقن أن مكروها قد أصاب أسرته ..ولكن عندما رآهما بخير اطمأن قلبه وسأل زوجته عن زهورها المبعثرة ...من تجرأ على العبث بها ؟؟.فردت الأم هذه قصة أخرى ..سأخبرك عنها لاحقا ..المهم ..استمع لابنتك ..فهناك مصيبة ستحل بجيراننا إن لم تتدخل بسرعة...دخل الخوف قلب الوالد وجلس مصغيا باهتمام شديد لما تقوله ابنته وما إن أنهت قصتها  حتى قال لها :..هل أنت متأكدة يا بدور ..ردت بدور خجلا ..نعم يا والدي ..رغم أني كنت حريصة ألا أستمع لما يقول إلا أن صوته كان عاليا ....فهز أبو بدور رأسه قائلا باستهزاء حقا كنت حريصة على ألا تستمعي ..هذه المرة سأسامحك إن كان الخبر صحيحا لأنك بذلك ستكونين أنقذت نفسا من السجن المحتم ..لكن يا بدور إياك أن تعودي للتصنت ثانية ..وعد يا أبي وعد ألا أفعل ذلك ثانية رددت بدور ....نظر أبو بدور إلى الساعة لقد قاربت على السابعة والنصف ..غير ملابسه ..واتجه إلى المكان الذي ذكرته ابنته ..وقف بعيدا يراقب الوضع ..الهدوء مخيم على المكان ..نظر في ساعته ..إنها تقارب الثامنة تماما ..ماذا أرى يا إلهي إنه خالد ابن الجيران يأتي من يمين الشارع ..يتحدث بالهاتف ..يقترب منه فتى يبدو أنه صديقه ...قال في نفسه لابد أن أتحرك الآن ..وقف خالد جانبا وأشغل نفسه بمسح نظارته اقترب أبو بدور من خالد ألقى عليه التحية ارتبك خالد... قال في نفسه.. كيف جاء جارنا إلى هنا ؟؟ارتبك ..لم يرد التحية ..رأى صديقه ارتباك خالد ففر هاربا أمسك أبو بدور بيد ابن الجيران وطلب منه أن يسير معه ..حاول خالد أن يتهرب منه  مرددا أنا ما فعلت شيئا ..أأنا ما فعلت شيئا ..ضحك أبو بدور مرددا ومن قال أنك فعلت شيئا ..أنت كنت ستفعل!! ..ارتبك خالد ..ووجد نفسه أسيرا ..لم ينطق ببنت شفة .. ..أخذ أبو بدور بيد خالد وسار معه إلى أقرب مقهى ...أجلسه وطمأنه ..وطلب له عصير ليمون ..نظر أبو بدور بأسى إلى ابن الجيران الذي لم يتجاوز عمره التسع سنوات ..قال في نفسه ..لو وجد هذا الفتى أبا يحيطه بالرعاية والاهتمام ..لو وجد هذا الفتى أما تعطيه الدفء والحنان ..لما انقاد مع رفقة السوء تزين له الحرام وتدفعه إليه ...نظر الفتى إلى جاره خلسة ..ما الذي جاء بجارنا في هذه اللحظة في هذا المكان ..يا ترى هل عرف شيئا ؟؟هل سيخبر والدي ..؟بماذا سيخبره ؟هو لا يعرف أصلا لم جئت إلى هنا ؟؟كلمات دارت في خلد خالد ..وقطع صوت الجار حبل أفكار ابن الجيران خالد  سائلا إياه ... تحب والدتك يا خالد ؟؟ارتبك خالد من سهولة السؤال ..وهل هناك من لا  يحب والدته ؟ ..فرد أبو بدور : أنت يا خالد ..أنت لا تحب والدتك .والدليل وجودك أنت هنا بالاتفاق مع صديقك لسرقة هذا المحل فصاحبه رجل عجوز ولا يساعده أحد ..فسرقة محله وقت صلاته للعشاء أمر سهل للغاية ؟؟سرقة !!تريد أن تسرق يا خالد .؟؟والنتيجة !!.ستمسك بك الشرطة ,ثم تضعك في سجن الأحداث فأنت مازلت طفلا ..وستقضي العيد خلف القضبان ..فالعيد كما تعلم بعد أسبوع موعده .. هل ترضى لأمك أن تقضي العيد وحيدة ؟؟حزينة ؟؟هل ترضى لوالدك أن يكون ابنه المدلل خلف قضبان السجن لأنه شرع في سرقة محل تجاري ؟؟؟عجبا وأنا على علم أن والدك غير مقصر معك في شيء أبدا ..أطرق خالد رأسه  وقد اختلطت عليه الأمور كيف عرف هذا الجار بتفاصيل خطتي...سأل خالد جاره محاولا إنكار ما سمعه ...أنا لم أفعل شيئا ..كررها بارتباك ..رد الجار ..اهدأ يا خالد واحمد الله أن الله أنقذك قبل أن تفعل فعلتك البشعة فتوقع أهلك في مشاكل لا حصر لها ..هيا بنا ..رد خالد إلى أين ؟؟أنا لن أعود لإثارة المشاكل ثانية أعدك بذلك .. أرجوك لا تخبر والدي ولا تخبر والدتي ..بدأ خالد بالبكاء كالأطفال..وكرر إنه صديقي هو الذي خطط ..هو الذي سحبني إلى ذلك العمل..أنا لا أسرق ..أعرف أن السرقة حرام ..لكن صديقي هذا يحب اللهو والعبث والمغامرات أراد أن نطبق معا ما يراه في المسلسلات الكرتونية ..يريد أن يأخذ المال من الأغنياء ويعطي الفقراء هكذا قال لي ..ما كنت أعلم أن الموضوع له عواقب وخيمة ...أنا لا أحب المشاكل ولا أريد لوالدتي المشاكل..أنا أحب أمي كثيرا ..أرجوك ياعماه أنا لن أعود لهذا التصرف ثانية أعدك بذلك ...كان أبو بدور يتأمل عيني خالد بينما كان يتحدث ....بدا له أنه صادق في وعده ..حركات يديه و تعبيرات وجهه الطفولي   ونظرة عينيه البريئتين ...ودموعه المنهمرة....جميعها ينطق بندمه وصدق وعده...رد الجار أبو بدور مهدئا من روع خالد : سأصدقك يا خالد ولكن ابتعد عن صديقك هذا ولا تعد إلى هذه المغامرات ...واعتبرني كوالدك إذا احتجت لشيء فحن جيران أليس كذلك يا خالد ..هذه المرة لن أخبر والدتك ولن أخبر والدك ذلك المغترب ..لا أريد أن أشغل فكره فيك يكفيه ما يقاسيه من آلام البعد عنكم .. هبا بنا إلى المنزل فقد تأخر الوقت ..عجيب لم تتصل والدتك لتطمئن عنك سأله أبو بدور ؟؟..هي تعلم أنني مع صديقي ..رد الجار : صديقك هذا الذي وعدتني بأن تتركه ..رد خالد بلهفة : أكيد..أكيد ..أعدك بذلك ..وصل الجار البيت متعبا بعد أن أوصل ابن الجيران لبيته ..تلقته أم بدور بوابل من الأسئلة ..هدأ من روعها وأخبرها بكل شيء ..سأل عن بدور ..فأجابت الأم :نامت بعد أن تعبت من اللعب ..ذهب الأب إلى غرفتها ..نظر إليها وهي نائمة ..وجهها البيضاوي يشع نورا ..وخدودها الوردية تنبض بالحياة ..ينسدل شعرها على وسادتها كالحرير ..غطاها باللحاف الذي انحسر عنها هاربا إلى الأرض ..قبل جبينها ودعا لها بالهداية والتوفيق ..ردد في نفسه ..تحتاج منا إلى رعاية واهتمام ..أعنا يا رب على حسن تربيتها ..  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق