وعود كاذبة
لن أعود للكذب ثانية يا أماه .. أعدك بذلك
..قالها أشرف ذو التاسعة ربيعا ..قالها سريعا وهو يكمل اتجاهه إلى باب البيت مودعا
أمه .. تبعته أمه بنظرات غاضبة ..حاولت مرارا وتكرارا أن تثنيه عن عزمه للخروج
لكنه أبى .. هي لا تريد له أن يذهب مع صاحبه حسين هذا بالذات ..لأن أم حسين تشكو
من ابنها لأم أشرف من كثرة كذبه .. فأم حسين جارة أم أشرف .. اجتمعا على الخير
دوما ..لكن ابنيهما سيكونا سببا في تفريقهما ..فأي الصاحبين علم الآخر على الكذب ؟..لا
نعلم ..فكل أم تعلن عن نقاء سريرة ابنها وتلصق في الآخر سوء التصرف واختلاق
الأعذار ...تختلف الأمهات أمام اتحاد ابنيها ...وها هما يخرجان سويا ولكن إلى أين
كلاهما لا يعرف الحقيقة ..فأشرف قال لوالدته أنه ذاهب في رحلة إلى البحر ..بينما
أخبر حسين والدته أنه ذاهب إلى المكتبة لاقتناء أمهات الكتب التي ستساعده في البحث
التربوي الذي طلب منه ...وهما معا لا يفترقان ...هما في الصف معا ..وكلاهما ينقل
صورة مغايرة عما يحدث للآخر مع معلميه ...في ذلك اليوم الذي خرج فيه أشرف واعدا
أمه ألا يكذب ... خرج على دراجته مسرعا تخطى إشارات المرور ليصل سريعا إلى منزل
صديقه الحميم حسين رغم فرب المسافة إلا أنه يحب ركوب الدراجة
وكم حذرته أمه من ركوبها حيث أنه قد اصطدم بشاحنة واقفة ذات مرة لعدم
انتباهه مما أدى إلى حدوث كسور ألزمته المنزل لمدة أسبوع وأضاع الكثير من الدروس
عليه ..نعم حاول صديقه العزيز أن يكون عينه اليقظة في الفصل لكنه لم ينفعه كثيرا
لأنه أصلا يحتاج من يعينه على دروسه ..المهم أنه وعد أمه ألا يركبها مرة أخرى
.زولكنه في غفلة من أمرها يحاول أن يعبث بها ...وها هو يخلف الوعد ويركب دراجته
ضاربا بنصائح أمه عرض الحائط..ولكن هذه المرة لم تسلم الجرة فتهوره كاد أن يؤدي
بحياته ..فعندما قطع إشارة المرور المخصصة للسيارات للمرور ..ولحبه للون الأخضر
سار أمام السيارات وهي تستعد للمرور فصدمته سيارة كانت قادمة أصلا مسرعة مما أددت
إلى رفع أشرف ودراجته في الهواء عدة أمتار....ظن كل من رآه أنه هالك لا محالة
...طارت دراجته ثم هوت به فوق شجرة عرض الطريق ...سقط أشرف على الأرض مضرجا بدمائه
.. أسرع الناس عليه محوقلين مترحمين ..وأسرعت سيارة الإسعاف لتسعفه ..ظن الجميع أن
الموت كانت النهاية لكن الفتى مازال قلبه ينبض وله أنين سمعه من كان منه قريب
..وضعوه في سيارة الإسعاف وطاروا به إلى المشفى ..وبلمح البصر عملوا الفحوصات اللازمة
وأدخلوه غرفة العمليات ...دون مناقشة ولا جدال كان أشرف بين يدي الله تجرى له عدة
عمليات مرة واحدة ...من ضمن فريق الاطباء
الطبيب أمجد صديق عائلة أشرف أسرع إلى الهاتف ليتصل بالأهل ..رن الهاتف .. رفعت
الأم سماعة الهاتف وقبل أن تعرف المتحدث قالت للمتصل هل حدث مكروه لأشرف ؟؟تعجب
الطبيب المتصل صديق العائلة أمجد واحتار في الجواب فبعد أن كان متشجعا ليخبرها وجد
نفسه مرتبكا لإخفاء أمر ما حدث لأشرف حاول تخيف الأمر ولكن لم يستطع ..فقط قال لها
هو بخير إنه في المشفى ..دارت الدنيا بالأم ..حدثت نفسها كنت أعلم أن مكروها حدث
له ..قلبي لم يطمئن منذ خروجه ..كم حاولت منعه ولكن بلا فائدة ...اتصلت الأم بجارتها تخبرها بالأمر وتطلب تواجدها معها
..فوالد أشرف في سفر .. وهي وحيدة هنا ..والجار القريب أفضل من الأخ البعيد ...لحظات وكانت الجارة أم
حسين عند جارتها ..طارا معا إلى المشفى .. وهما في طريقهما اتصلت أم حسين بابنها
فرد عليها على الفور أنا مع أشرف في المكتبة اطمئني.. نهرته الأم ورمته بوابل من
الشتائم وطلبت منه أن يقابلها عند المشفى .. أقفل ابنها الهاتف وأسرع إلى المشفى
بأسرع سيارة أجرة .. حتى وجدوه على باب المشفى قبلهما ..سألته أمه أين أشرف ؟؟ألم
تقل أنه معك ... أحاط الارتباك والوجوم
وجه حسين ..حاول التهرب .. لكنه سقط في شباك كذبه ...سألهما عن سبب تواجدهما معا
في المشفى .. تركت أم أشرف حسين مع والدته وذهبت تسأل عن ابنها .. وبعد طول سؤال
.. وطول حوار ..عرفت مكان ابنها ..إنه في غرفة العمليات ..سقطت الأم على أقرب كرسي
بجانب غرفة العمليات .. وسقطت معها جارتها ..بينما تسمر حسين في مكانه..يتضرع إلى
الله أن ينجيه مما هو فيه ...مرددا (نجيه يا الله ونعاهدك ألا نكذب أبدا )مضت
الساعات ثقيلة ..ثقيلة جدا ..الكل يرقب
حركة باب غرفة العمليات .. وأخيرا فتح الباب بعد طول انتظار ..تعلقت الأعين بحركة
شفاه الاطباء ..خرج الطبيب الاول وتبعه الثاني ثم الثالث ولا أحد ينطق ببنت شفه
..أيقنت الام أن ابنها قد مات ..وضعت رأسها بين كفيها وأجهشت بالبكاء ..احتضنتها
أم حسين ..تشاركها البكاء ..نظر حسين على هذا المنظر ..فما إن خرج الطبيب الرابع
حتى أسرع حسين إليه ..أرجوك يا دكتور كيف صديقي هل هو بخير قل انه بخيريا دكتور قل
أنه بخير أرجوك إنه صديقي العزيز ..أرجوك لا أريده أن يموت ..أرجوك يادكتور ..قل
لي كيف حاله ...نظر الطبيب إلى هذا الفتى الجريء ..جال ببصره إلى الأم الثكلى
..ومن بجوارها ..ثم قال ..اطمئنوا .. المريض سيكون بخير ..ما إن نطق بهذه
الجملة حتى خرت الأم ساجدة لله ...وسجدت
معها جارتها ..وبينما هي ساجدة جاء طبيب العائلة إلى أم أشرف ..وطلب منها أن تأتي
معه .. سارت معه بهدوء شديد .. سمعت دقات قلبها تنبض بسرعة ..أحست أن الموضوع خطير
..وصلت معه إلى حيث اجتماع فريق الأطباء ..دخلت الأم مع الطبيب إلى غرفة الأطباء
حيث كانت المفاجأة بالانتظار ..أجلسوها على الكرسي ..قال رئيس الأطباء الحمد لله
لقد نجى الله ابنك من الموت بأعجوبة ..ولكن وللأسف سيبقى ابنك حبيس كرسيه المتحرك
..الحادث كان بشعا جدا ..اضطرينا إلى بتر قدميه لنحافظ على بقايا الأعضاء سليمة
لأنن القدمين أصلا قد تهشما بالكامل ..احمدي الله على كل حال تعلمين أن الطب في
تطور مستمر ..وربما في المستقبل يستخدم قدمين صناعيتين ..المهم أنه بخير .. كان
وقع الخبر مؤلما جدا ولكنها تجلدت بالصبر ..حمدت الله على كل حال .. ولكن متى
سأراه ..رد الطبيب : بعد ساعة سيخرج من غرفة العناية المركزة بعدها سننفله إلى
غرفة خاصة ..سترينه ولكن لن يفيق إلا بعد ساعات ..تسلحي بالصبر والإيمان ..وارض
بقضاء الله وقدره فنحن أمة مؤمنة بالله ..هزت الام رأسها ..خرجت والحزن يلفها
ويلتحفها .. خرجت لتجد جارتها تؤازرها وتساندها .. أجلستها وأسقتها شربة ماء ..ثم
سألتها عن حال انها فأعلمتها بالخبر الذي وقع كالصاعقة على رأسها ..سمع حسين ما حل
بصاحبه ..خرج راكضا من المشفى بعد أن اغرورقت عيناه بالدموع ...خرج هاربا ..خرج
حزينا ..اختبأ خلف شجرة قرب باب المشفى الخلفي حتى لا يراه أحد .. وأطلق العنان
لدموعه بالانهمار ..زخت كالمطر دون توقف ..ما حاول أن يوقفها أصلا ..خاطبها قائلا
:ابك ابك ياعين ..ابك ..على تفريطك .. ابك على كذبك ..ابك على هروبك ..ابك يانفس
على أعز صحبك ..كيف سألعب ثانية معك يا أشرف ؟؟من سيسابقني ..مع من سألعب كرة
القدم ؟؟ من سيبارزني ؟؟كنا نسير معك نقفز ونمرح ونعبث ..كيف رضيت أب أقفز وحدي
؟؟كيف رضيت أن أجري وحدي ..كيف سألعب الكرة وحدي ...
لا لا بعدك يا صديقي
لن أقفز ولن ألعب ولن أجري ولن لن لن أكذب
لن أكذب لكنني والله أحبك كثيرا وهذا ما لا أكذب به أبدا ....مسح حسين دموعه
الغزيرة ..شعر براحة كبيرة ...اتجه إلى المشفى ليرى أعز صحبه ..عرف الغرفة التي
انتقل إليها ..دخل غرفته ..وجده ممددا على السرير ..وجد أمه باكية بجانب سريره ..
توجه ‘ليها مخاطبا اياها ..لا تقلقي عليه
يا خاله ..سيكون بخير ..صدقا ما أقوله .. فأشرف إرادته كبيرة وسيتخطى كل الصعاب
..أعرفه جيدا إرادته القوية جسرا لكل نجاح ..سأعود إليه بعد ساعات يكو قد اسيقظت
بإذن الله ..خرج حسين مودعا ‘ياهم ..نظر إلى صديقه النائم نظر إلى قدميه فما وجدها
.زخنقته العبرة ..خرج سريعا .. لا يريد لدموعه أن تنحدر أما أم صديقه ...وضعت أم
أشرف رأسها على سرير ابنها ..استيقظت على صوت ابنها .. أماه أين قدماي يا أماه
..لن أكذب ثانية .. فليعيدوها إلي .. لن أخرج إلا بإذنك أعيدوها إلي ... لن أهرب
من المدرسة ثانية أعيدوها إلي .. لن أركب الدراجة إلا بإذنك أعيدوها إلي ... فليعيدوها
إلي يا أماه...دخلت الممرضة على صراخ أشرف فأرعت بإعطائه حقنة مهدئة ..أدت إلى أن
يغفو ويهدأ من نوبة الغضب التي أصابته ..وقفت الأم أمام صراخ ابنها لا تحرك ساكنا
فقط دموع منهمرة وعينان شاخصتان ووجه شاحب ..سكن الهم جسدها فأوجعها وآلمها
...أصبحت الحوقلة ديدنها ...وضعت كفها على خدها تنتظر صحوة ابنها ثانية ...استيقظ
ثانية ولكنه استيقظ هذه المرة مستسلما ..هادئا ..تبادل النظرات مع أمه وبعد
صمت ليس بالطويل همس قائلا سامحيني يا
أماه ..أخطأت كثيرا في حقك ....هزت الام رأسها بالقبول ..وسمحت للدموع بالهطول
..ةبينما هما ينصتان لحديث الدموع ..فإذا
بطرقات خفيفة على الباب تأذن بالدخول .. دخل صديقه العزيز حسين هجم عليه مقبلا
ومهنئا إياه على السلامة شادا من عزمه ..يستأذنه لدخول زائر عليهما ..فإذا بالباب
..يفتح على مصراعيه ..كرسي متحرك يدخل الغرفة يقوده لاعب مشهور معروف في الاوساط
الرياضية .. أذهلت المفاجأة أشرف ..ألقى الرجل التحية ..تقدم من أشرف يشد من أزره
.. ثم أصبح يسرد قصة حياته وكفاحه مع الكرسي المتحرك..وكيف أصبح الكرسي جسرا
للنجاح متوجا بإرادته الحديدية ..زيارة هذا اللاعب المشهور رفعت من معنويات أشرف
كثيرا ..رسمت الابتسامة ..على شفاهه ..وشفاه من حوله..اقترب حسين من صديقه قائلا
له لن أتركك أبدا يا صديقي سنبقى معا للأبد قدماي هن قدماك ..سأكون لك خارج المنزل
كما تريد أن تكون أنت ..هز اللاعب المشهور رأسه
قائلا لأشرف : هنيئا لك بهذا الصديق ..كم كنت أتمنى أن أجد صديقا بقربي
عندما تعرضت للحادث الذي أفقدني قدماي..صديقك يا أشرف ..عمل المستحيل كي يحصل عل
رقمي وعجبت اكثر عندما وجدته أمام منزلي مصمما على اصطحابي إليك ..كم يحبك ..تمسك به جيدا وحافظ عليه ففي
هذا الزمان ..أن تعثر على صديق وفي كأنك قد عثرت على كنز لا يقدر بثمن .. هيا هيا
لاتستسلم للمرض أريد أن أراك امتدادا لنجاحي ..سأنتظرك في الملاعب تشد من أزري لا
منافسا لي اتفقنا ..ضحك الجميع واتفقا على المضي قدما ..خرج اللاعب المشهور بكرسيه
المتحرك ..تاركا أشرف مفعما بالحيوية والنشاط ..راميا وراء ظهره آلامه وأحزانه
..مصما على المثابرة والنجاح ..فاتحا صفحة جديدة ..مع نفسه أولا ..مع أمه ثانيا
..مع أصدقائه ثالثا ..مع مدرسته رابعا ..نظم أشرف حياته ..بمساعدت واليه وأخوته
وصاحبه العزيز حسين ...ومرت الأيام ليفي أشرف بوعده مع اللاعب المشهور ..وذهب إلى ناديه طالبا منه أن يدربه
ليتقن اللعبة ..ضحك اللاعب المشهور عندما رآه وسأله فور رؤيته عن صديقه حسين
..فإذا بصديقه يأتي مسرعا يجيب عن السؤال
قبل أن يجيب أشرف عنه ..ها أنا ذا ..صاحبي سحبني إليك .. فالصاحب والمسحوب بين
يديك أيها اللاعب المشهور ...ضحك الجميع وبد التدريب بمرح وسرور ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق