القصة الثالثة (( ثمن الغربة ))
دفاتر و درجات و أقلام و مساطر تحضير و
علامات أنشطة و امتحانات هكذا كان دولاب حياتهما اليومي يدور دون توقف أو تغير..الزوج
خالد ذلك المدرس الجامعي الذي وقع أسير جمال الفتاة الحسناء عائشة الطالبة في
السنة النهائية في كلية الآداب .. عائشة فتاة تتفجر أنوثة وجمال.. ممشوقة القوام
ذات الشعر البني الطويل صاحبة أجمل عينين زرقاويتين ..هي طالبته ..أحاطها
بالاهتمام والرعاية وفاز بقلبها ..
اتفقا
على الزواج بعد إكمال السنة الأخيرة لها في نفس الجامعة .. و تم الزواج في حفل
بهيج حضرة ثلة من المدرسين و ثلة من طالبات الجامعة صويحبات عائشة ..وضعا برنامجا
لحياتهما منذ البداية..العمل أولا ثم المال ثانيا ..ثم الاستمتاع بالحياة ثالثا
..لذا انكبا على العمل منذ الشهور الأولى من الزواج ليجمعا المال الكافي ليسكنا في
شقة تحويهما بعيدا عن مشاكل العائلة الكبيرة التي سكن خالد في غرفة من غرفها ..مع
عروسه الشابة الجميلة...لقد كان خالد الابن الأكبر في أسرته لذا كان الأبوان يعلقان
الآمال عليه في تخفيف عبء الحياة المتدرجة في الغلاء يوما من بعد يوم..الأسرة
كبيرة و مصاريفها كثيرة و خالد تعلق قلبه بطالبته الجامعية رائعة الجمال و التي
تمناها الكثيرون و لكنها اختارته فقد جذبها نظراته الحانية تجاهها و اهتمامه
البالغ بها فبادلته نظرات المحبة ووافقت أن تعيش معه في غرفة و لو في صحراء قاحلة
..لذلك كان منزل أسرة خالد أفضل من الصحراء القاحلة بقليل ..دخلت عائشة بيت الأسرة
مبتهجة ..عاشت عائشة الطفلة اليتيمة مع أخوتها في منزل عمها التاجر المعروف في
المدينة بعد وفاة والديها غرقا..في حادثة السفينة التي كانت متجهة إلى ميناء الإسكندرية
فقد غرقت السفينة و من عليها بعد محاولات فاشلة في إنقاذ من عليها ...فالسفينة قد أكل
الدهر و عليها شرب ..قديمة قدم الفراعنة و لموت ضمير أهل الغنى ..فقد كانوا لا
يعتنون بإصلاحها الكامل قبل السماح لها بحمل البضائع و الركاب عليها..فلرخص تذاكرها
هجم المواطنون عليها لتنقلهم من مكان لآخر
..تذاكر رخيصة ..الأعداد كبيرة..قلة الاهتمام بالصيانة عوامل ساعدت على أن تكون
الرحلة الأخيرة.. رحلة ألا عودة لمن اختاروها عن غيرها.. و في لحظات منسية في
صفحات الزمن تدفق ماء البحر من ثقوب داخل السفينة الكبيرة تعطلت المحركات حاول
ربان السفينة الاستنجاد بمراقبي السفن على الموانئ فلم يجد صدى لصرخاته..فالسفينة لأناس
بسطاء أنى يستجاب لهم ..جاءتهم الإعانة بعد أن كانوا طعاما لذيذا لأسماك القرش
الجوعى ..مات والد عائشة ..فكفلها عمها الغني الذي كان تاجر أقمشة كبيرا في البلد,
فسمعته الطيبة كانت تطير في الآفاق تصل قبل وصوله لأي مكان ..الكل أحبه و أحب
التعامل معه فالصدق و الأمانة عنوان لهذا التاجر الأمين و قلما وجدنا هذه
الصفة في تجار أسواقنا هذه الأيام...فالتجار أصبحوا عباد
الدينار..يبيع آخرته بعرض دنيوي زهيد ..سمعته طيبة و ماله وفير إلا أنه حرم الإنجاب
لذلك احتوى أبناء أخيه الذي غرقت به الباخرة و اعتبرهم كأبنائه ..و أن حرمه الله الإنجاب
إلا أن الله رزقه المال و الزوجة الصابرة الصالحة..رضي بالمعلم خالد زوجا لابنة
أخيه العزيز عائشة الجميلة فقد كان خائفا جدا عليها فجمالها
جذب لها التجار لخطبتها .. و هو يعلم عالم التجار و ما فيه من مكر و خبث..لذا رضي
بالمعلم خالد لطيب خلقه و لدينه و لكونه من أسرة معروفة بدماثة الخلق و حسن التربية ..انتقلت عائشة لتعيش مع
زوجها
وبدأت
حياتها مع خالد في غرفة صغيرة في بيت مكتظ بالسكان ..صراخ و لعب ..جل الوقت ..تقدمت
بطلب في إحدى المدارس الخاصة القريبة من بيت زوجها.. وبعد أسبوعين أجرت مقابلة مع
صاحب المدرسة الذي اختارها دون تردد لتكون مدرسة ضمن أسرة المدرسة ..وافق على
انضمامها بسرعة لاتدري ما السبب ..نعم عي متميزة في شهادتها العلمية لكن صاحب
المدرسة معروف بمزاجه وعصبيته ..هل الذي جذبه فيها علمها أم جمالها ..أم يريد أن
يزيد من علاقته بعمها التاجر المعروف ..على أية حال فعائشة فتاة ذكية تعرف كيف
تتعامل مع هذه الأصناف من البشر .. أسعدها قبولها في المدرسة ..
تهرب
صباحا إلى مدرستها... إنهامدرسة للغة العربية فقد كانت تعشقها حتى الثمالة...عندما
انخرطت في مجال التدريس..وجدت اللغة العربية مهيضة الجانب.قليلة الحصص.. فالكل يريد الإنجليزية ..اللغة العالمية كما
يدعون ..وجدت أن العلوم أصبح يدرس بالإنجليزية و الرياضيات يدرس بالانجليزية آلمها ذلك كثيرا ..كثيرا كانت
تردد أيهتم الغرب بلغتنا كما نحن نهتم بلغتهم ..فخشيت أن يأت اليوم الذي تدرس مادة اللغة العربية بالإنجليزية..أمام
هذا الهجوم البشع على لغتها الأم ..أصبحت متعلقة بلغتها العربية أكثر و أكثر و
أصبحت تدرسها بوسائل متنوعة أكثر....تقف عائشة بلغتها صامدة متحدية ..تقف بكل فخر
و اعتزاز لتقول للجميع لغتنا هي العالمية..هي لغة قرآننا و ديننا آخر الأديان ولا
يوجد دين ارتبط بلغته سوانا..شعر طلابها بعشقها للغتها العربية فأحبوا العربية
لحبهم لمعلمتهم فمن أحب المعلم أحب ما يحبه المعلم...الجميع شهد لعائشة بحسن
تعليمها فحصلت على وسام الحب من قبل إدارة المدرسة و معلميها و طلابها ...عشقت عملها
فأبدعت به تعود إلى منزلها حاملة هموم
حبها تريد دوما أن تجدد الحب فلابد من التعب و العناء عاتبها زوجها..أين أنا
منك؟؟ما موقعي من الإعراب؟أعيريني بعض اهتمامك تضحك كثيرا عندما تسمعه ينطق بهذه
الكلمات و لكنها ترد عليه بهدوء و بساطة أيا خالد منك تعلمت حب مهنة الرسل ..فأنت
معلمي أنسيت كيف علمتنا حب العربية يا معلم العربية..لا لا لا يردد خالد بل والله
لقد فزت علي و تقدمت ..مهلا ..مهلا يا عائشة ..و يضحكان..رغم التعب و العناء اللذان
أحاطا نفسيهما به..كانا يشاركان في مصروف المنزل فأم خالد امرأة كبير عاقلة ناضجة
كانت تعامل عائشة بكل مودة و لين و عائشة كانت تعاملها كوالدتها كأمها التي حرمت
من حنانها مبكرا..كانت عائشة تصحب أم خالد لبيت عمها لزيارة إخوتها الصغار التي
تحرص زوجة عمها على العناية بهما..كانت زوجة العم تغدق
عليهم بالهدايا لتعوضهم حنان الأم و هم كانوا يحبونها حبا جما..فهل جزاء الإحسان إلا
الإحسان..كانت عائشة تشعر بسعادة كبيرة عندما ترى الابتسامة على وجه أختها و أخيها
و تحمد الله على أنهما بأيدي أمينة..تعود إلى غرفتها في منزل أهل زوجها مع والدة
زوجها و هي مسرورة ..فسعادتها تكتمل برؤية السعادة تنطلق من عيون أختها و أخيها
..و في يوم من الأيام و بينما كانت عائشة تنعم بنومة الضحى فاليوم إجازة يوم الجمعة يوم عيد...نعم
تعترف أنها حبيسة في هذه الغرفة ويضيق صدرها كثيرا بها ..وكثيرا كان يعرض عليها
عمها أن يستأجر لها بيتا مع زوجها كهدية منه لهما لكنها ترفض أن يخرج خالد من بيت
الأسرة حتى لا تغضب والدته ..هي على يقين أن المرء يرزق ببركة دعاء الوالدين ...
تقول دائما بيد الانسان أن يكون سعيدا وبيده أن يكون تعيسا ..كن جميلا ترى الوجود
جميلا ..حكمتها هذه ..خففت عليها الكثير من المصاعب ..هي تشعر بالراحة بعد عناء أسبوع
كامل بين تدريس و تصحيح و درجات ... يأتيها خالد في يوم جمعة .. بالخبر السعيد ...سننطلق يا عائشة إلى إحدى دول
الخليج في اعارة لأربع
سنوات... لندرس هناك... فرصة ذهبية قرأت الإعلان في الصحف منذ شهر..أتذكرين عندما
طلبت منك شهادتك الجامعية؟؟ردت عائشة نعم أذكر أمن أجل ذلك طلبتها ؟؟نعم .. قدمت طلبين لي و لك و قلت أفاجئك إذا قبلت
طلباتنا و لله الحمد تمت الموافقة ما هي إلا أشهر و سنطير سويا ..ما رأيك بهذا
الخبر ؟؟..... تلقت عائشة الخبر كالصاعقة..أخذت تحدث نفسها.. لا تدري أتفرح أم
تحزن ..ستترك مدرستها و طالباتها التي أحبت.. و ستترك أختها و أخيها فهذا شيء
يحزنها .. و لكنها ستترك القفص الذي تعيش فيه و هذا شيء يسعدها..ففي هذه الغرفة
فقط كانت تأخذ حريتها فالبيت ليس بيتها و إخوانه و والد زوجها كانوا مقيدين
لحريتها ..و أخيرا سينطلق العصفور محلقا في الجو يصافح السحب و النجوم و الأقمار...يا
له من خبر سعيد حزين..تحلق عائشة في الخيال..قطع خالد عليها حبل خيالها ماذا قلت
موافقة وسعيدة أليس كذلك؟؟ يردد.ماذا قلت يا عائشة.. طبعا ..طبعا موافقة على السفر
؟... بعد أشهر يردد خالد ..في بداية العام الجديد سننطلق ..التذاكر ستكون جاهزة
...جهزي نفسك سنذهب سويا و سنصنع معا مستقبلا أفضل ... هي تستغرب من سعادة خالد تسأله
هل أخبرت والدتك بالأمر ..فرد خالد بدهاء
..ما يسعدني يسعد أمي ..لا أعتقد أنها ستقف في طريق مستقبلي ..نعم ستحزن ولكنني
سأعوضها بملغ شهري سأرسله لوالدي في نهاية كل شهر ..
و
ها هي الأشهر تمر سريعا و ينطلق خالد مودعا والدته التي أمطرته بدعواتها المختلطة
بآهات و دموع ... لا تقطعنا يا ولدي ..اتصل بنا يوميا سأنتظر صوتك لا تحرمني منك
يا ولدي ...آلمه عباراتها انحنى يقبل يدي والده المرتعشة ..عيون دامعة و رؤوسا
مطرقة نظر إلى إخوته مودعا ...لقد خيم الحزن و الأسى على أنحاء المنزل حتى شعر أن الأرض
تبكي لبكاء إخوته و والديه ..خانته العبرة فتدحرجت الدموع من مقلتيه حارة ..لسعت
وجنتيه..لا تتركنا يا ولدي ..الغربة مرة ..تقسي القلب..كم و كم نسمع ما فعلته الغربة بأهلها مال قليل في وطنك أفضل
ألف مرة و بين أهلك أفضل من غربة بمال وفير ..ابق يا ولدي لا تتركنا..غدا سيكون لك
أبناء..بلا هوية..أبناء غربة ..الغريب يا ولدي معذب أبدا ...ابق يا ولدي.. كلمات
وقعت سهاما في قلبه ..جرحت فؤاده..لفته الحيرة ... أيبقى حبيس غرفته مع زوجته و
ابنه المنتظر ..براتب زهيد ..و غلاء يزيد ...أم ينطلق لمال وفير.. أخذ يقبل يدي
والدته مرددا..أرجوك يا أماه ..دعيني أجرب حظي..سأعود ..سأعود.. تهزأ الأم من
عباراته..ستعود ..ستعود... قالوها ..قبلك الكثير و ما عاد منهم أحد..ما عاد منهم
أحد..الغريب يا ولدي تنشأ بينه و بين الغربة ألفة وروابط قوية تمنعه من
العودة..تأسره الغربة فلا يستطيع التفلت منها أبدا ... ردد خالد..لا يا أماه أصابعك ليست واحدة .. ابنك خالد فقط سيغترب سنتين أو أربع.. و سيعود
ليشتري بيتا ليسكن فيه معه زوجته و أولاده..
لقد قاسمناكم معيشتكم يا أماه وضيقنا عليكم البيت .... و من قال لك أنني
منزعجة منكم يا ولدي ..أنا سعيدة بوجودكما بيننا .. لأول مرة خانته الكلمات وقف
هذا المعلم الفذ أمام معلمته الأولى صفر اليدين .. ما استطاع خالد أن يقول شيئا ...ماذا يقول؟؟
أيقول أنه أسير غرفته هو وزوجته و سيظل كذلك إن بقي بهذا المرتب الزهيد و الحياة في غلاء لا يتوقف .. و لكنه
يعلنها بقوة قلب..سأعود يا أماه ..سنعود يا أماه لا تخافي يضع خالد صخرة كبيرة على
قلبه حاملا حقيبة سفره متجها إلى عائشة التي ذهبت لتودع أخويها..فخرجت إليه من
منزل عمها و قد احمرت عينيها من الدموع و كأنها فقدت عزيزا مرددة ...خروجي من هنا
كخروج الروح من الجسد ..ما رأيك لو سافرت منفردا و سأظل أنتظرك هنا حتى تعود
...قاطع خالد كلامها مزمجرا ..لم يكن هذا اتفاقنا يا عائشة ..فردت قائلة ..نعم و
لكن ما هي إلا أشهر و سأرزق بمولود أين و كيف سأهتم به هناك ...قاطعها
خالد ..أرجوك عائشة الطائرة ستقلع بعد ساعتين و لا وقت لدينا للجدال الآن ..هيا
هيا فلننطلق إلى المطار..استأجر سيارة ركب فيها هو وزوجته ..نظر الى السائق يريد
أن يخبره بالمكان الذي يقصده فإذا به
صديقه العزيز أحمد تفاجأ به..ماذا تفعل هنا يا أحمد سيارة أجرة..هي لك؟! ضحك أحمد
بل أنا أعمل عند صاحبها..تفاجأ خالد..ماذا تعمل يا رجل؟ أنه الأول على مدرستنا
..منذ كنت في المدرسة و أنت الأول ولا ترضى أن تكون الأول على صفنا بل على جميع
الصفوف و في الجامعة كنت متميزا اخترنا نحن قسم الآداب و اخترت أنت الهندسة..ما
الذي حدث؟؟..انقطعت أخبارك عنا مرة واحدة ما عدت أراك نهائيا..قسم الهندسة بعيد
جدا عن قسمنا و لكن لا أخبار عنك أبدا أحمد الله أنني رايتك..هذه زوجتي ...ضحك أحمد بارك الله زواجكما ورزقكما الذرية
الصالحة ..
تابع
أحمد قيادة السيارة مستمعا لخالد يهز رأسه فقط دون أن يشاركه الحديث.....يقطع خالد صمت أحمد ..قل يا أحمد ما قصتك؟ الطريق إلى
المطار طويل ..تحدث يا رجل لم الصمت..ماذا أقول يا خالد..لابد للإنسان أن يضحي من
أجل من يحب ..تعرض والدي لحادث سير من قبل شاب طائش متهور يقود سيارة والده دون
رخصة يعبث بالشارع غير آبه بأرواح الناس... طيشه قضى على رب الأسرة...دمر حياتها
بعبثه ولهوه ...وخرج من القضية مثل الشعرة من العجين لأنه ابن رجل أعمال .. ألصقوا
القضية بعامل من عمالهم الفقراء مقابل مبلغا من المال .. وخرج الشلب القاتل من
السجن حتى قبل أن يسجن ..لكنه لن يفلت من عقاب الله ..( كلنات قالها بحزن شديد
) ماذا تظنني فاعل..لابد أن اعمل لأوفر
المصاريف اللازمة لأمي و أخواتي..و كما ترى تركت الجامعة و عملت سائقا لسيارة الأجرة
هذه ..فصاحبها كان صديقا حميما لوالدي رحمه الله..فسهل لي مهمة العثور على عمل ..و
ها أنا أخرج بعد صلاة الفجر ولا أعود إلا في منتصف الليل و في كل أسبوع أذهب بما
جمعته من مال إلى العم محمود..و في آخر الشهر يعطيني مرتبا شهريا لا بأس به أسد به
حاجات أسرتي..و اشتريت لأمي المسكينة مكينة خياطة و ها هي تقوم بحكاية الملابس لمن
تريد من الجارات ..و لله الحمد و المنة ..ربما أعود لجامعتي و لكن ليس في الوقت
الحاضر..هز خالد رأسه..آلمه ما سمعه من
أحمد الطالب المتميز ..شاطره أحزانه بقوله..مأجور يا أحمد..ستعود إلى جامعتك
بالتأكيد و ستصبح مهندسا مشهورا..قاطعه أحمد قائلا له و أنت يا خالد أين ستسافر ؟
فرد خالد مبتهجا تعلم أن الحياة هنا غالية ..ولا بد من جمع المال حتى نستطيع أن
نعيش نريد بيتا يجمعنا..قل شقة كيف سنشتريها و نحن نعمل هنا..لابد أن نهاجر و مضى
الاثنان معا في حديثهما..بينما عائشة كانت
تنظر من نافذة السيارة إلى الأراضي الشاسعة الخضراء الجميلة ..تودعها
..تنظر إلى مدرستها فتخنقها العبرة..ضبابة رمادية تكسو عينيها تحاول جاهدة أن توقف سيل الدموع المنهمرة
فباءت محاولاتها بالفشل... تخرج من حقيبتها مجموعة من الصور.. صورة والديها ثم
صورة أخويها سعيد و سعاد ..تقبل الصور ثم تضعها في حقيبتها وصلت المطار في الموعد
المحدد..و تنطلق بهما الطائرة هناك..هناك إلى غربة لا تعرف مداها ..لا تعرف ماذا
يخبئ لها القدر مع زوجها ..و مرت الأشهر الأولى في غربتهم ثقيلة بطيئة
متعبة...المدرسة جديدة و الوجوه جديدة و البيت جديد...لا جيران..ولا أهل ولا أحباب
..الكل يعمل الكل يلهث وراء هذه الدنيا الفانية .. اللغات مختلفة.. العادات متنوعة ...وجوه
غريبة .. و نظرات غريبة..الوحشة تحيط بها من كل جانب..خالد تأقلم سريعا في مدرسته
مع المدير و المدرسين و الطلبة أما عائشة فوجدت نفسها غريبة غريبة الوجه واليد واللسان ...حاولت أن تنخرط
مع زميلاتها و لكنها لم تنجح في إقامة علاقات مع أحد فالكل كتاب مغلق على نفسه لا
أحد يتحدث مع أحد.. الحديث يكون فقط عن الحصص و العلامات و الدروس
..و
ما هي إلا أشهر حتى رزق الله عائشة بمولودة جميلة ..أنثى جميلة جدا
..لقد عانت كثيرا في حملها وعانت أكثر عند ولادتها فالوحدة قاتلة ..نعم حاول زوجها
أن يعوضها حنان الأهل .. و لكن هيهات هيهات..أصبحت عائشة أما رزقها الله طفلة
جميلة بيضاء دائرية الوجه بعينين واسعتين برموش طويلة..سر من رآها..في قمة
الجمال..احتاروا باختيار اسم يناسبها كيف لا تكون جميلة و أمها جميلة و والده جميل..فما
وجدوا اسما أجمل من قمر ..فقمر كانت قمرا..أحاطتها الأم بعناية فائقة ..جاءت قمر إلى
الدنيا لتغير نفسية أمها فأصبحت ترى كل شيء في الغربة جميلا ..دللتها احتارت أين ستترك قمر عند ذهابها
لمدرستها..تعرفت على جارة كبيرة في السن تقطن بالشقة التي بجانبها إنها أرملة
وحيدة تركها أولادها و هاجروا طلبا للرزق في ارض الله الواسعة و اكتفوا بإرسال حوالة لها كل شهر..عاشت الأرملة
وحيدة بعد أن كان منزلها يعج بالأطفال فما ظل الأطفال أطفالا ..كبروا و كبرت معهم أحلامهم
..طارت الطيور ..نما الريش وأصبح الصغير قادرا على الطيران فأطلقت العنان لأجنحتها
تاركة وراءها من سهرت وربت وتعبت ..ما أقسى الأبناء.. و نسوا أن هناك أما سهرت
الليالي الطوال على راحتهم..بقيت وحيدة هذه الأرملة ظنوا الأولاد المال سيغني عن
وجودهم بقربها ما عرفوا أن مال الدنيا لا يعوض الأم وجود أبنائها بقربها و هي تنتظر مجيئهم و لم تيأس و هم اكتفوا بإرسال
المال و ما لانت قلوبهم فهي كالحجارة بل اشد قسوة .. استحسنت الأم فكرة وجود قمر
في حضانتها حتى تعود الأم من عملها ..بل كانت جدا سعيدة بذلك أحاطت الأرملة قمر بكل رعاية و كثيرا و ما كانت تكرر..قمر
وجودها نعمة من الله أرى فيها طفولة أولادي فانا لم ارزق بأنثى ..
و
كم كنت أتمنى أنثى و ها قد رزقني الله بها فلله الحمد و المنة..اتفقت عائشة مع زوجها على عدم الإنجاب و
اكتفيا بقمر و كبرت قمر و دخلت المدرسة و طالت سنين الغربة ...كان خالد يقول لأمه
واعدا إياها ..سنة فقط و سنعود و مرت سنة إثر سنة و مضت السنون و ما عاد خالد إلى
حضن أمه كما وعدها..و في إحدى الليالي رن جرس الهاتف في وقت متأخر استيقظ خالد
فزعا..مد يده إلى الهاتف في خوف شديد ..يا الهي إنها مكالمة ..الصوت غير واضح لا
يسمع إلا صوت بكاء و عويل..يحاول التحدث عبثا ..و أخيرا اتضح الصوت..من معي؟ ماذا
هناك؟ لم البكاء؟..فجاء صوت الأم مرتجفا والدك يا خالد والدك يا خالد ..اهتزت الأرض
تحت قدمي خالد .. و ذهب ليحجز في أول رحلة إلى وطنه ماوجد إلا في اليوم الثاني
للمكالمة .. التقى بأمه و إخوته في لقاء عاطفي باك ..وصل متأخرا لقد دفن والده و
كم كانت أمنيته أن يراه ..بكى بكاء مريرا على قبره..سامحني يا أبي ... ظنت أمه المسكينة أنه سيبقى .. وعدها أن يعود..عاد
خالد حاملا أحزانه في حقيبة سفره واعدا أمه انه سيعود بعد شهور ليقوم مقام والده
..سأزيد المال الذي أرسله يا أمي و لن أظل مغتربا هذا وعد يا أمي..و ما أن وصل ارض
غريبة حتى تبخرت وعوده..فالمال أعمى بصيرته..اشترى شقة و بقيت سيارة و سنعود بعدها
مباشرة و سنة بعد سنة تزوج إخوته و ما حضر حفل زفافهم اكتفى بإرسال المال ..و بقيت
أمه تعاني الوحدة..وعدها أنه سيعود و ما عاد خالد خطفته أنوار الغربة فما عاد يشعر
بأمه ولا بأخوته حتى كاد أن ينسى زوجته..فقط كان يحب قمر..و كبرت قمر و كلما كبرت
زاد جمالها..زادت جمالا على جمال..ماتت الأرملة التي كانت تعتني بها و هي طفلة ..وجودها
بعد أن استفقدوها عدة أيام ميتة في شقتها و هي تحتضن صور أبنائها ..فما استطاعوا
نزع صورهم من بين أيديها فدفنوها و يديها ممسكتا بالصور ..بكت قمر كثيرا على هذه الأرملة
..و لكن البكاء لا يعيد شيئا مضى و انتهى ..انهت قمر الثانوية العامة و قرر الأبوان
أن يعودا إلى أرض الوطن لتكمل قمر تعليمها هناك في تلك الجامعة التي درست فيها أمها..قرار
صعب جدا ..قرار عودتها و لكن ما في اليد حيلة و بعد مناقشات طويلة قررا أن ينزلا
معها إلى أرض الوطن ريثما يؤمنان لها سكن امن ثم يعودا لغربتهما..أدهش قمر هذا
القرار التعسفي .. و أنكرت
عليهما القسوة و قررت أن لا تتركهما يخططان للانفصال عنها ..مهما كانت الظروف
..فاتفقا على أن يكونا معها كما تريد حتى تهدا ثم يقررا العودة دون علمها..نزلا إلى
أرض الوطن بعد غياب فتنكرت لهما الأرض و السماء و الأهل و الأصحاب و الأحباب..الكل
ابتعد عنهم ..فالبادي اظلم..اسودت الدنيا بعينين الزوجين المغتربين..اقنعا ابنتهما
قمر على أن تبقى في رعاية عمها و زوجته ..ريثما يعودان و لن يطيلا السفر هذه
المرة..و لكن من جرب الغربة وذاق حلاوة المال لا يضره نكران الأهل كثيرا له...بكت
قمر كثيرا و بكت الأم أكثر و حاولا منع الوالد من قراره..و لكنه صمم على السفر ..رضخت الأم أمام صمود الأب وودعت ابنتها و كأنها
تودع روحها و خرجت لا ترى أمامها ..فقد كانت مسيرة لا مخيرة..و عاد الأبوان
لغربتهما من جديد و بقيت قمر في رعاية عمها و زوجته الغيورة الحقودة..ذات الملمس الأفعوي.. سأضع قمر في عيوني
هكذا كانت تردد لعائشة و خالد ..ووضعت قمر في غرفة و أوصدتها عاملتها كأسيرة
فقط..فقط من الجامعة للبيت ومن البيت للجامعة أحاطتها بقيود من حديد..شكت قمر سوء
معاملة زوجة عمها لها فكانت تختلق هذه الأفعى الأكاذيب لتخرج كالشعرة من
العجين..مضت الأيام على قمر المدللة سودا بل أشد سوادا من شعرها الطويل
الفحمي..تردد زوجة عمها غربة و مال و جمال لا يجتمعان ..تقدم اخو زوجة العم لخطبة
قمر فرفضت قمر رفضا قاطعا..تحدث العم مع خالد حول الأمر فرفض خالد رفضا قاطعا و
هدد أخاه أن يعود لهذا الموضوع ثانية...و
لكنه كان يعود ليحادثه تحت إصرار زوجته ..فأجمل من قمر لم تلد النساء و هي تريدها لأخيها
العاطل عن العمل ..الذي يهددها مرارا بأخذ المال خلسة من زوجها..خططت هذه الأفعى
لتزوج أخيها من قمر ابنة الثري الوحيدة و ليصرف خالد الأب على ابنته وعلى أخيها
فماذا في ذلك ؟...كثيرا ما كانت زوجة عمها تسمح لأخيها أن يحادث قمر ...قمر الذكية
التي كانت تعرف مخططات زوجة عمها المسمومة ...و كانت تعلم أمها و والدها بكل ما
يجري و سرعان ما تعود الأفعى إلى حجرها أياما ثم ما تلبث أن
ترجع لفث سمومها ثانية ..لا تعجز ولا تستسلم فكيدها عظيم ..تحاول قمر الاتصال
بوالدتها تحذرها من خطط زوجة عمها التي بنعومة لسانها تتخلص من الشكوى التي تقدمها
قمر ضدها .. تتعب قمر من هذه المهاترات ..و
ينحل جسم قمر ..و يصفر لونها... و تبدأ هذه الوردة بالذبول ..فما يحيط بها أكبر من
أن تتحمله هذه القمر المدللة المرفهة..تشكو لأمها..تشكو لأبيها..يحاول كل منهما أن
يصبرها ..سنعود سريعا و نخرجك مما أنت فيه ..و تذوي قمر كما يذوي القضيب من
الرند.. و يبدأ المرض بالهجوم عليها..يخفي العم و زوجته خبر مرض قمر المفاجئ
...تدخل المستشفى ..تحت العناية المركزة..يعجب الطبيب من مرضها ..يسائل عمها و
زوجته ..هذه أعراض التسمم تسري في دمها هل أكلت شيئا..تفاجأ العم من سؤاله..ماذا
تقول يا دكتور؟؟سموم في دمها من أين؟ أعد التحاليل ..كيف وصلت السموم إليها..ماذا سأقول لأبيها ؟؟و أصبح يضرب كفا
بكف..ذهب ثائرا لزوجته ماذا فعلت بقمر؟..أنكرت كل شيء ..اضطربت ..اختنقت ..أحاطها
بالأسئلة من كل الجهات و هي و هي تنكر الاتهامات المتراشقة ..اتصل والد قمر بأخيه
..أين قمر يا أخي منذ أيام لم تحادثنا هل أصابها مكروه .. لا ..لا ..لا شيء يا
خالد فقط عليها امتحانات و هي مشغولة بدراستها ..ماذا سيقول له ...ماذا سيقول له
...و عندما تفاقمت حالتها و أصبحت قاب قوسين من الموت ..اتصل العم بخالد ..الحق
ابنتك يا خالد إنها تحتضر..جن جنون الأب و صعقت الأم بالخبر ..قمر تحتضر ..قمر
ابنتي ..كيف؟؟ذهب لشركة الطيران يريد أن يجد حجزا في اقرب وقت ليرى ابنته ... ولكن
لا حجوزات ولا أماكن شاغرة ولا طيران..أصبح كالحمار المستنفرة فرت من قسورة ..ساعات
وجاءهم خبر وفاة قمر .. ماتت قمر ..كيف ندفنها يا أباها وأنت غير موجود ..فرد خالد
لا حجوزات لا أستطيع الحضور إكرام الميت دفنه ...دفنت قمر ..ماتت الغالية الجميلة
..ماتت وحيدة ودفنت وحيدة ..وبعد أيام وصل الأبوان ..وصلت الأم الثكلى والأب
المكلوم ..مع المال الوفير..عادا ليدفعا ثمن غربتهما ..ثمنا باهضا جدا ..ذهبت الأم
إلى قبر ابنتها تردد عدت إليك يا قمري لن أتركك أبدا ..أنى يستجاب لها حملوها إلى
مصحة عقلية لا تزال تعالج فيها إلى الآن ..ما زالت تهلوس بالقمر الذي أفل قبل
أوانه ..أما الأب فجلس في بيته المنيف لا يزور ولا يزار...شقت الدموع مجريين على
خديه واضحين للعيان ................
تمت
بقلم
سمر
نزال