الخميس، 26 فبراير 2015

القصة الثالثة (( ثمن الغربة ))
دفاتر و درجات و أقلام و مساطر تحضير و علامات أنشطة و امتحانات هكذا كان دولاب حياتهما اليومي يدور دون توقف أو تغير..الزوج خالد ذلك المدرس الجامعي الذي وقع أسير جمال الفتاة الحسناء عائشة الطالبة في السنة النهائية في كلية الآداب .. عائشة فتاة تتفجر أنوثة وجمال.. ممشوقة القوام ذات الشعر البني الطويل صاحبة أجمل عينين زرقاويتين ..هي طالبته ..أحاطها بالاهتمام والرعاية وفاز بقلبها ..
اتفقا على الزواج بعد إكمال السنة الأخيرة لها في نفس الجامعة .. و تم الزواج في حفل بهيج حضرة ثلة من المدرسين و ثلة من طالبات الجامعة صويحبات عائشة ..وضعا برنامجا لحياتهما منذ البداية..العمل أولا ثم المال ثانيا ..ثم الاستمتاع بالحياة ثالثا ..لذا انكبا على العمل منذ الشهور الأولى من الزواج ليجمعا المال الكافي ليسكنا في شقة تحويهما بعيدا عن مشاكل العائلة الكبيرة التي سكن خالد في غرفة من غرفها ..مع عروسه الشابة الجميلة...لقد كان خالد الابن الأكبر في أسرته لذا كان الأبوان يعلقان الآمال عليه في تخفيف عبء الحياة المتدرجة في الغلاء يوما من بعد يوم..الأسرة كبيرة و مصاريفها كثيرة و خالد تعلق قلبه بطالبته الجامعية رائعة الجمال و التي تمناها الكثيرون و لكنها اختارته فقد جذبها نظراته الحانية تجاهها و اهتمامه البالغ بها فبادلته نظرات المحبة ووافقت أن تعيش معه في غرفة و لو في صحراء قاحلة ..لذلك كان منزل أسرة خالد أفضل من الصحراء القاحلة بقليل ..دخلت عائشة بيت الأسرة مبتهجة ..عاشت عائشة الطفلة اليتيمة مع أخوتها في منزل عمها التاجر المعروف في المدينة بعد وفاة والديها غرقا..في حادثة السفينة التي كانت متجهة إلى ميناء الإسكندرية فقد غرقت السفينة و من عليها بعد محاولات فاشلة في إنقاذ من عليها ...فالسفينة قد أكل الدهر و عليها شرب ..قديمة قدم الفراعنة و لموت ضمير أهل الغنى ..فقد كانوا لا يعتنون بإصلاحها الكامل قبل السماح لها بحمل البضائع و الركاب عليها..فلرخص تذاكرها هجم  المواطنون عليها لتنقلهم من مكان لآخر ..تذاكر رخيصة ..الأعداد كبيرة..قلة الاهتمام بالصيانة عوامل ساعدت على أن تكون الرحلة الأخيرة.. رحلة ألا عودة لمن اختاروها عن غيرها.. و في لحظات منسية في صفحات الزمن تدفق ماء البحر من ثقوب داخل السفينة الكبيرة تعطلت المحركات حاول ربان السفينة الاستنجاد بمراقبي السفن على الموانئ فلم يجد صدى لصرخاته..فالسفينة لأناس بسطاء أنى يستجاب لهم ..جاءتهم الإعانة بعد أن كانوا طعاما لذيذا لأسماك القرش الجوعى ..مات والد عائشة ..فكفلها عمها الغني الذي كان تاجر أقمشة كبيرا في البلد, فسمعته الطيبة كانت تطير في الآفاق تصل قبل وصوله لأي مكان ..الكل أحبه و أحب التعامل معه فالصدق و الأمانة عنوان لهذا التاجر الأمين و قلما وجدنا هذه الصفة  في تجار  أسواقنا هذه الأيام...فالتجار أصبحوا عباد الدينار..يبيع آخرته بعرض دنيوي زهيد ..سمعته طيبة و ماله وفير إلا أنه حرم الإنجاب لذلك احتوى أبناء أخيه الذي غرقت به الباخرة و اعتبرهم كأبنائه ..و أن حرمه الله الإنجاب إلا أن الله رزقه المال و الزوجة الصابرة الصالحة..رضي بالمعلم خالد زوجا لابنة أخيه العزيز    عائشة الجميلة فقد كان خائفا جدا عليها فجمالها جذب لها التجار لخطبتها .. و هو يعلم عالم التجار و ما فيه من مكر و خبث..لذا رضي بالمعلم خالد لطيب خلقه و لدينه و لكونه من أسرة معروفة بدماثة الخلق و حسن التربية ..انتقلت عائشة لتعيش مع زوجها
وبدأت حياتها مع خالد في غرفة صغيرة في بيت مكتظ بالسكان ..صراخ و لعب ..جل الوقت ..تقدمت بطلب في إحدى المدارس الخاصة القريبة من بيت زوجها.. وبعد أسبوعين أجرت مقابلة مع صاحب المدرسة الذي اختارها دون تردد لتكون مدرسة ضمن أسرة المدرسة ..وافق على انضمامها بسرعة لاتدري ما السبب ..نعم عي متميزة في شهادتها العلمية لكن صاحب المدرسة معروف بمزاجه وعصبيته ..هل الذي جذبه فيها علمها أم جمالها ..أم يريد أن يزيد من علاقته بعمها التاجر المعروف ..على أية حال فعائشة فتاة ذكية تعرف كيف تتعامل مع هذه الأصناف من البشر .. أسعدها قبولها في المدرسة ..
تهرب صباحا إلى مدرستها... إنهامدرسة للغة العربية فقد كانت تعشقها حتى الثمالة...عندما انخرطت في مجال التدريس..وجدت اللغة العربية مهيضة الجانب.قليلة الحصص..     فالكل يريد الإنجليزية ..اللغة العالمية كما يدعون ..وجدت أن العلوم أصبح يدرس بالإنجليزية و الرياضيات  يدرس بالانجليزية آلمها ذلك كثيرا ..كثيرا كانت تردد أيهتم الغرب بلغتنا كما نحن نهتم بلغتهم ..فخشيت أن يأت اليوم  الذي تدرس مادة اللغة العربية بالإنجليزية..أمام هذا الهجوم البشع على لغتها الأم ..أصبحت متعلقة بلغتها العربية أكثر و أكثر و أصبحت تدرسها بوسائل متنوعة أكثر....تقف عائشة بلغتها صامدة متحدية ..تقف بكل فخر و اعتزاز لتقول للجميع لغتنا هي العالمية..هي لغة قرآننا و ديننا آخر الأديان ولا يوجد دين ارتبط بلغته سوانا..شعر طلابها بعشقها للغتها العربية فأحبوا العربية لحبهم لمعلمتهم فمن أحب المعلم أحب ما يحبه المعلم...الجميع شهد لعائشة بحسن تعليمها فحصلت على وسام الحب من قبل إدارة المدرسة و معلميها و طلابها ...عشقت عملها فأبدعت به  تعود إلى منزلها حاملة هموم حبها تريد دوما أن تجدد الحب فلابد من التعب و العناء عاتبها زوجها..أين أنا منك؟؟ما موقعي من الإعراب؟أعيريني بعض اهتمامك تضحك كثيرا عندما تسمعه ينطق بهذه الكلمات و لكنها ترد عليه بهدوء و بساطة أيا خالد منك تعلمت حب مهنة الرسل ..فأنت معلمي أنسيت كيف علمتنا حب العربية يا معلم العربية..لا لا لا يردد خالد بل والله لقد فزت علي و تقدمت ..مهلا ..مهلا يا عائشة ..و يضحكان..رغم التعب و العناء اللذان أحاطا نفسيهما به..كانا يشاركان في مصروف المنزل فأم خالد امرأة كبير عاقلة ناضجة كانت تعامل عائشة بكل مودة و لين و عائشة كانت تعاملها كوالدتها كأمها التي حرمت من حنانها مبكرا..كانت عائشة تصحب أم خالد لبيت عمها لزيارة إخوتها الصغار التي تحرص زوجة عمها على العناية بهما..كانت زوجة العم تغدق عليهم بالهدايا لتعوضهم حنان الأم و هم كانوا يحبونها حبا جما..فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان..كانت عائشة تشعر بسعادة كبيرة عندما ترى الابتسامة على وجه أختها و أخيها و تحمد الله على أنهما بأيدي أمينة..تعود إلى غرفتها في منزل أهل زوجها مع والدة زوجها و هي مسرورة ..فسعادتها تكتمل برؤية السعادة تنطلق من عيون أختها و أخيها ..و في يوم من الأيام و بينما كانت عائشة تنعم بنومة الضحى فاليوم إجازة يوم الجمعة يوم عيد...نعم تعترف أنها حبيسة في هذه الغرفة ويضيق صدرها كثيرا بها ..وكثيرا كان يعرض عليها عمها أن يستأجر لها بيتا مع زوجها كهدية منه لهما لكنها ترفض أن يخرج خالد من بيت الأسرة حتى لا تغضب والدته ..هي على يقين أن المرء يرزق ببركة دعاء الوالدين ... تقول دائما بيد الانسان أن يكون سعيدا وبيده أن يكون تعيسا ..كن جميلا ترى الوجود جميلا ..حكمتها هذه ..خففت عليها الكثير من المصاعب ..هي تشعر بالراحة بعد عناء أسبوع كامل بين تدريس و تصحيح و درجات ... يأتيها خالد في يوم جمعة  .. بالخبر السعيد ...سننطلق يا عائشة إلى إحدى دول الخليج في اعارة لأربع سنوات... لندرس هناك... فرصة ذهبية قرأت الإعلان في الصحف منذ شهر..أتذكرين عندما طلبت منك شهادتك الجامعية؟؟ردت عائشة نعم أذكر أمن أجل ذلك طلبتها ؟؟نعم ..  قدمت طلبين لي و لك و قلت أفاجئك إذا قبلت طلباتنا و لله الحمد تمت الموافقة ما هي إلا أشهر و سنطير سويا ..ما رأيك بهذا الخبر ؟؟..... تلقت عائشة الخبر كالصاعقة..أخذت تحدث نفسها.. لا تدري أتفرح أم تحزن ..ستترك مدرستها و طالباتها التي أحبت.. و ستترك أختها و أخيها فهذا شيء يحزنها .. و لكنها ستترك القفص الذي تعيش فيه و هذا شيء يسعدها..ففي هذه الغرفة فقط كانت تأخذ حريتها فالبيت ليس بيتها و إخوانه و والد زوجها كانوا مقيدين لحريتها ..و أخيرا سينطلق العصفور محلقا في الجو يصافح السحب و النجوم و الأقمار...يا له من خبر سعيد حزين..تحلق عائشة في الخيال..قطع خالد عليها حبل خيالها ماذا قلت موافقة وسعيدة أليس كذلك؟؟ يردد.ماذا قلت يا عائشة.. طبعا ..طبعا موافقة على السفر ؟... بعد أشهر يردد خالد ..في بداية العام الجديد سننطلق ..التذاكر ستكون جاهزة ...جهزي نفسك سنذهب سويا و سنصنع معا مستقبلا أفضل ... هي تستغرب من سعادة خالد تسأله  هل أخبرت والدتك بالأمر ..فرد خالد بدهاء ..ما يسعدني يسعد أمي ..لا أعتقد أنها ستقف في طريق مستقبلي ..نعم ستحزن ولكنني سأعوضها بملغ شهري سأرسله لوالدي في نهاية كل شهر ..
و ها هي الأشهر تمر سريعا و ينطلق خالد مودعا والدته التي أمطرته بدعواتها المختلطة بآهات و دموع ... لا تقطعنا يا ولدي ..اتصل بنا يوميا سأنتظر صوتك لا تحرمني منك يا ولدي ...آلمه عباراتها انحنى يقبل يدي والده المرتعشة ..عيون دامعة و رؤوسا مطرقة نظر إلى إخوته مودعا ...لقد خيم الحزن و الأسى على أنحاء المنزل حتى شعر أن الأرض تبكي لبكاء إخوته و والديه ..خانته العبرة فتدحرجت الدموع من مقلتيه حارة ..لسعت وجنتيه..لا تتركنا يا ولدي ..الغربة مرة ..تقسي القلب..كم و كم نسمع  ما فعلته الغربة بأهلها مال قليل في وطنك أفضل ألف مرة و بين أهلك أفضل من غربة بمال وفير ..ابق يا ولدي لا تتركنا..غدا سيكون لك أبناء..بلا هوية..أبناء غربة ..الغريب يا ولدي معذب أبدا ...ابق يا ولدي.. كلمات وقعت سهاما في قلبه ..جرحت فؤاده..لفته الحيرة ... أيبقى حبيس غرفته مع زوجته و ابنه المنتظر ..براتب زهيد ..و غلاء يزيد ...أم ينطلق لمال وفير.. أخذ يقبل يدي والدته مرددا..أرجوك يا أماه ..دعيني أجرب حظي..سأعود ..سأعود.. تهزأ الأم من عباراته..ستعود ..ستعود... قالوها ..قبلك الكثير و ما عاد منهم أحد..ما عاد منهم أحد..الغريب يا ولدي تنشأ بينه و بين الغربة ألفة وروابط قوية تمنعه من العودة..تأسره الغربة فلا يستطيع التفلت منها أبدا ... ردد خالد..لا يا أماه أصابعك ليست واحدة .. ابنك خالد فقط سيغترب سنتين أو أربع.. و سيعود ليشتري بيتا ليسكن فيه معه زوجته و أولاده..   لقد قاسمناكم معيشتكم يا أماه  وضيقنا عليكم البيت .... و من قال لك أنني منزعجة منكم يا ولدي ..أنا سعيدة بوجودكما بيننا .. لأول مرة خانته الكلمات وقف هذا المعلم الفذ أمام معلمته الأولى صفر اليدين ..  ما استطاع خالد أن يقول شيئا ...ماذا يقول؟؟ أيقول أنه أسير غرفته هو وزوجته و سيظل كذلك إن بقي بهذا المرتب الزهيد و الحياة في غلاء لا يتوقف .. و لكنه يعلنها بقوة قلب..سأعود يا أماه ..سنعود يا أماه لا تخافي يضع خالد صخرة كبيرة على قلبه حاملا حقيبة سفره متجها إلى عائشة التي ذهبت لتودع أخويها..فخرجت إليه من منزل عمها و قد احمرت عينيها من الدموع و كأنها فقدت عزيزا مرددة ...خروجي من هنا كخروج الروح من الجسد ..ما رأيك لو سافرت منفردا و سأظل أنتظرك هنا حتى تعود ...قاطع خالد كلامها مزمجرا ..لم يكن هذا اتفاقنا يا عائشة ..فردت قائلة ..نعم و لكن ما هي إلا أشهر و سأرزق بمولود أين و كيف سأهتم به هناك ...قاطعها خالد ..أرجوك عائشة الطائرة ستقلع بعد ساعتين و لا وقت لدينا للجدال الآن ..هيا هيا فلننطلق إلى المطار..استأجر سيارة ركب فيها هو وزوجته ..نظر الى السائق يريد أن يخبره بالمكان الذي يقصده فإذا  به صديقه العزيز أحمد تفاجأ به..ماذا تفعل هنا يا أحمد سيارة أجرة..هي لك؟! ضحك أحمد بل أنا أعمل عند صاحبها..تفاجأ خالد..ماذا تعمل يا رجل؟ أنه الأول على مدرستنا ..منذ كنت في المدرسة و أنت الأول ولا ترضى أن تكون الأول على صفنا بل على جميع الصفوف و في الجامعة كنت متميزا اخترنا نحن قسم الآداب و اخترت أنت الهندسة..ما الذي حدث؟؟..انقطعت أخبارك عنا مرة واحدة ما عدت أراك نهائيا..قسم الهندسة بعيد جدا عن قسمنا و لكن لا أخبار عنك أبدا أحمد الله أنني رايتك..هذه زوجتي  ...ضحك أحمد بارك الله زواجكما ورزقكما الذرية الصالحة ..
تابع أحمد قيادة السيارة مستمعا لخالد يهز رأسه فقط دون أن يشاركه الحديث.....يقطع  خالد صمت أحمد ..قل يا أحمد ما قصتك؟ الطريق إلى المطار طويل ..تحدث يا رجل لم الصمت..ماذا أقول يا خالد..لابد للإنسان أن يضحي من أجل من يحب ..تعرض والدي لحادث سير من قبل شاب طائش متهور يقود سيارة والده دون رخصة يعبث بالشارع غير آبه بأرواح الناس... طيشه قضى على رب الأسرة...دمر حياتها بعبثه ولهوه ...وخرج من القضية مثل الشعرة من العجين لأنه ابن رجل أعمال .. ألصقوا القضية بعامل من عمالهم الفقراء مقابل مبلغا من المال .. وخرج الشلب القاتل من السجن حتى قبل أن يسجن ..لكنه لن يفلت من عقاب الله ..( كلنات قالها بحزن شديد )   ماذا تظنني فاعل..لابد أن اعمل لأوفر المصاريف اللازمة لأمي و أخواتي..و كما ترى تركت الجامعة و عملت سائقا لسيارة الأجرة هذه ..فصاحبها كان صديقا حميما لوالدي رحمه الله..فسهل لي مهمة العثور على عمل ..و ها أنا أخرج بعد صلاة الفجر ولا أعود إلا في منتصف الليل و في كل أسبوع أذهب بما جمعته من مال إلى العم محمود..و في آخر الشهر يعطيني مرتبا شهريا لا بأس به أسد به حاجات أسرتي..و اشتريت لأمي المسكينة مكينة خياطة و ها هي تقوم بحكاية الملابس لمن تريد من الجارات ..و لله الحمد و المنة ..ربما أعود لجامعتي و لكن ليس في الوقت الحاضر..هز  خالد رأسه..آلمه ما سمعه من أحمد الطالب المتميز ..شاطره أحزانه بقوله..مأجور يا أحمد..ستعود إلى جامعتك بالتأكيد و ستصبح مهندسا مشهورا..قاطعه أحمد قائلا له و أنت يا خالد أين ستسافر ؟ فرد خالد مبتهجا تعلم أن الحياة هنا غالية ..ولا بد من جمع المال حتى نستطيع أن نعيش نريد بيتا يجمعنا..قل شقة كيف سنشتريها و نحن نعمل هنا..لابد أن نهاجر و مضى الاثنان معا في حديثهما..بينما عائشة كانت  تنظر من نافذة السيارة إلى الأراضي الشاسعة الخضراء الجميلة ..تودعها ..تنظر إلى مدرستها فتخنقها العبرة..ضبابة رمادية تكسو عينيها تحاول جاهدة أن توقف سيل الدموع المنهمرة فباءت محاولاتها بالفشل... تخرج من حقيبتها مجموعة من الصور.. صورة والديها ثم صورة أخويها سعيد و سعاد ..تقبل الصور ثم تضعها في حقيبتها وصلت المطار في الموعد المحدد..و تنطلق بهما الطائرة هناك..هناك إلى غربة لا تعرف مداها ..لا تعرف ماذا يخبئ لها القدر مع زوجها ..و مرت الأشهر الأولى في غربتهم ثقيلة بطيئة متعبة...المدرسة جديدة و الوجوه جديدة و البيت جديد...لا جيران..ولا أهل ولا أحباب ..الكل يعمل الكل يلهث وراء هذه الدنيا الفانية ..      اللغات مختلفة.. العادات متنوعة ...وجوه غريبة .. و نظرات غريبة..الوحشة تحيط بها من كل جانب..خالد تأقلم سريعا في مدرسته مع المدير و المدرسين و الطلبة أما عائشة فوجدت نفسها غريبة  غريبة الوجه واليد واللسان ...حاولت أن تنخرط مع زميلاتها و لكنها لم تنجح في إقامة علاقات مع أحد فالكل كتاب مغلق على نفسه لا أحد يتحدث مع أحد.. الحديث يكون فقط عن   الحصص و العلامات و الدروس
..و ما هي إلا أشهر حتى رزق الله عائشة بمولودة جميلة ..أنثى جميلة جدا ..لقد عانت كثيرا في حملها وعانت أكثر عند ولادتها فالوحدة قاتلة ..نعم حاول زوجها أن يعوضها حنان الأهل .. و لكن هيهات هيهات..أصبحت عائشة أما رزقها الله طفلة جميلة بيضاء دائرية الوجه بعينين واسعتين برموش طويلة..سر من رآها..في قمة الجمال..احتاروا باختيار اسم يناسبها كيف لا تكون جميلة و أمها جميلة و والده جميل..فما وجدوا اسما أجمل من قمر ..فقمر كانت قمرا..أحاطتها الأم بعناية فائقة ..جاءت قمر إلى الدنيا لتغير نفسية أمها فأصبحت ترى كل شيء في الغربة جميلا ..دللتها  احتارت أين ستترك قمر عند ذهابها لمدرستها..تعرفت على جارة كبيرة في السن تقطن بالشقة التي بجانبها إنها أرملة وحيدة تركها أولادها و هاجروا طلبا للرزق في ارض الله الواسعة و اكتفوا بإرسال حوالة لها كل شهر..عاشت الأرملة وحيدة بعد أن كان منزلها يعج بالأطفال فما ظل الأطفال أطفالا ..كبروا و كبرت معهم أحلامهم ..طارت الطيور ..نما الريش وأصبح الصغير قادرا على الطيران فأطلقت العنان لأجنحتها تاركة وراءها من سهرت وربت وتعبت ..ما أقسى الأبناء.. و نسوا أن هناك أما سهرت الليالي الطوال على راحتهم..بقيت وحيدة هذه الأرملة ظنوا الأولاد المال سيغني عن وجودهم بقربها ما عرفوا أن مال الدنيا لا يعوض الأم وجود أبنائها بقربها و  هي تنتظر مجيئهم و لم تيأس و هم اكتفوا بإرسال المال و ما لانت قلوبهم فهي كالحجارة بل اشد قسوة .. استحسنت الأم فكرة وجود قمر في حضانتها حتى تعود الأم من عملها ..بل كانت جدا سعيدة بذلك أحاطت الأرملة  قمر بكل رعاية و كثيرا و ما كانت تكرر..قمر وجودها نعمة من الله أرى فيها طفولة أولادي فانا لم ارزق بأنثى ..
و كم كنت أتمنى أنثى و ها قد رزقني الله بها فلله الحمد و المنة..اتفقت عائشة مع زوجها على عدم الإنجاب و اكتفيا بقمر و كبرت قمر و دخلت المدرسة و طالت سنين الغربة ...كان خالد يقول لأمه واعدا إياها ..سنة فقط و سنعود و مرت سنة إثر سنة و مضت السنون و ما عاد خالد إلى حضن أمه كما وعدها..و في إحدى الليالي رن جرس الهاتف في وقت متأخر استيقظ خالد فزعا..مد يده إلى الهاتف في خوف شديد ..يا الهي إنها مكالمة ..الصوت غير واضح لا يسمع إلا صوت بكاء و عويل..يحاول التحدث عبثا ..و أخيرا اتضح الصوت..من معي؟ ماذا هناك؟ لم البكاء؟..فجاء صوت الأم مرتجفا والدك يا خالد والدك يا خالد ..اهتزت الأرض تحت قدمي خالد .. و ذهب ليحجز في أول رحلة إلى وطنه ماوجد إلا في اليوم الثاني للمكالمة .. التقى بأمه و إخوته في لقاء عاطفي باك ..وصل متأخرا لقد دفن والده و كم كانت أمنيته أن يراه ..بكى بكاء مريرا على قبره..سامحني يا أبي ...  ظنت أمه المسكينة أنه سيبقى .. وعدها أن يعود..عاد خالد حاملا أحزانه في حقيبة سفره واعدا أمه انه سيعود بعد شهور ليقوم مقام والده ..سأزيد المال الذي أرسله يا أمي و لن أظل مغتربا هذا وعد يا أمي..و ما أن وصل ارض غريبة حتى تبخرت وعوده..فالمال أعمى بصيرته..اشترى شقة و بقيت سيارة و سنعود بعدها مباشرة و سنة بعد سنة تزوج إخوته و ما حضر حفل زفافهم اكتفى بإرسال المال ..و بقيت أمه تعاني الوحدة..وعدها أنه سيعود و ما عاد خالد خطفته أنوار الغربة فما عاد يشعر بأمه ولا بأخوته حتى كاد أن ينسى زوجته..فقط كان يحب قمر..و كبرت قمر و كلما كبرت زاد جمالها..زادت جمالا على جمال..ماتت الأرملة التي كانت تعتني بها و هي طفلة ..وجودها بعد أن استفقدوها عدة أيام ميتة في شقتها و هي تحتضن صور أبنائها ..فما استطاعوا نزع صورهم من بين أيديها فدفنوها و يديها ممسكتا بالصور ..بكت قمر كثيرا على هذه الأرملة ..و لكن البكاء لا يعيد شيئا مضى و انتهى ..انهت قمر الثانوية العامة و قرر الأبوان أن يعودا إلى أرض الوطن لتكمل قمر تعليمها هناك في تلك الجامعة التي درست فيها أمها..قرار صعب جدا ..قرار عودتها و لكن ما في اليد حيلة و بعد مناقشات طويلة قررا أن ينزلا معها إلى أرض الوطن ريثما يؤمنان لها سكن امن ثم يعودا لغربتهما..أدهش قمر هذا القرار التعسفي .. و أنكرت عليهما القسوة و قررت أن لا تتركهما يخططان للانفصال عنها ..مهما كانت الظروف ..فاتفقا على أن يكونا معها كما تريد حتى تهدا ثم يقررا العودة دون علمها..نزلا إلى أرض الوطن بعد غياب فتنكرت لهما الأرض و السماء و الأهل و الأصحاب و الأحباب..الكل ابتعد عنهم ..فالبادي اظلم..اسودت الدنيا بعينين الزوجين المغتربين..اقنعا ابنتهما قمر على أن تبقى في رعاية عمها و زوجته ..ريثما يعودان و لن يطيلا السفر هذه المرة..و لكن من جرب الغربة وذاق حلاوة المال لا يضره نكران الأهل كثيرا له...بكت قمر كثيرا و بكت الأم أكثر و حاولا منع الوالد من قراره..و لكنه صمم على السفر ..رضخت الأم أمام صمود الأب وودعت ابنتها و كأنها تودع روحها و خرجت لا ترى أمامها ..فقد كانت مسيرة لا مخيرة..و عاد الأبوان لغربتهما من جديد و بقيت قمر في رعاية عمها و زوجته الغيورة الحقودة..ذات الملمس الأفعوي.. سأضع قمر في عيوني هكذا كانت تردد لعائشة و خالد ..ووضعت قمر في غرفة و أوصدتها عاملتها كأسيرة فقط..فقط من الجامعة للبيت ومن البيت للجامعة أحاطتها بقيود من حديد..شكت قمر سوء معاملة زوجة عمها لها فكانت تختلق هذه الأفعى الأكاذيب لتخرج كالشعرة من العجين..مضت الأيام على قمر المدللة سودا بل أشد سوادا من شعرها الطويل الفحمي..تردد زوجة عمها غربة و مال و جمال لا يجتمعان ..تقدم اخو زوجة العم لخطبة قمر فرفضت قمر رفضا قاطعا..تحدث العم مع خالد حول الأمر فرفض خالد رفضا قاطعا و هدد  أخاه أن يعود لهذا الموضوع ثانية...و لكنه كان يعود ليحادثه تحت إصرار زوجته ..فأجمل من قمر لم تلد النساء و هي تريدها لأخيها العاطل عن العمل ..الذي يهددها مرارا بأخذ المال خلسة من زوجها..خططت هذه الأفعى لتزوج أخيها من قمر ابنة الثري الوحيدة و ليصرف خالد الأب على ابنته وعلى أخيها فماذا في ذلك ؟...كثيرا ما كانت زوجة عمها تسمح لأخيها أن يحادث قمر ...قمر الذكية التي كانت تعرف مخططات زوجة عمها المسمومة ...و كانت تعلم أمها و والدها بكل ما يجري و سرعان ما تعود الأفعى إلى حجرها أياما ثم ما تلبث أن ترجع لفث سمومها ثانية ..لا تعجز ولا تستسلم فكيدها عظيم ..تحاول قمر الاتصال بوالدتها تحذرها من خطط زوجة عمها التي بنعومة لسانها تتخلص من الشكوى التي تقدمها قمر ضدها ..  تتعب قمر من هذه المهاترات ..و ينحل جسم قمر ..و يصفر لونها... و تبدأ هذه الوردة بالذبول ..فما يحيط بها أكبر من أن تتحمله هذه القمر المدللة المرفهة..تشكو لأمها..تشكو لأبيها..يحاول كل منهما أن يصبرها ..سنعود سريعا و نخرجك مما أنت فيه ..و تذوي قمر كما يذوي القضيب من الرند.. و يبدأ المرض بالهجوم عليها..يخفي العم و زوجته خبر مرض قمر المفاجئ ...تدخل المستشفى ..تحت العناية المركزة..يعجب الطبيب من مرضها ..يسائل عمها و زوجته ..هذه أعراض التسمم تسري في دمها هل أكلت شيئا..تفاجأ العم من سؤاله..ماذا تقول يا دكتور؟؟سموم في دمها من أين؟ أعد التحاليل ..كيف وصلت السموم  إليها..ماذا سأقول لأبيها ؟؟و أصبح يضرب كفا بكف..ذهب ثائرا لزوجته ماذا فعلت بقمر؟..أنكرت كل شيء ..اضطربت ..اختنقت ..أحاطها بالأسئلة من كل الجهات و هي و هي تنكر الاتهامات المتراشقة ..اتصل والد قمر بأخيه ..أين قمر يا أخي منذ أيام لم تحادثنا هل أصابها مكروه .. لا ..لا ..لا شيء يا خالد فقط عليها امتحانات و هي مشغولة بدراستها ..ماذا سيقول له ...ماذا سيقول له ...و عندما تفاقمت حالتها و أصبحت قاب قوسين من الموت ..اتصل العم بخالد ..الحق ابنتك يا خالد إنها تحتضر..جن جنون الأب و صعقت الأم بالخبر ..قمر تحتضر ..قمر ابنتي ..كيف؟؟ذهب لشركة الطيران يريد أن يجد حجزا في اقرب وقت ليرى ابنته ... ولكن لا حجوزات ولا أماكن شاغرة ولا طيران..أصبح كالحمار المستنفرة فرت من قسورة ..ساعات وجاءهم خبر وفاة قمر .. ماتت قمر ..كيف ندفنها يا أباها وأنت غير موجود ..فرد خالد لا حجوزات لا أستطيع الحضور إكرام الميت دفنه ...دفنت قمر ..ماتت الغالية الجميلة ..ماتت وحيدة ودفنت وحيدة ..وبعد أيام وصل الأبوان ..وصلت الأم الثكلى والأب المكلوم ..مع المال الوفير..عادا ليدفعا ثمن غربتهما ..ثمنا باهضا جدا ..ذهبت الأم إلى قبر ابنتها تردد عدت إليك يا قمري لن أتركك أبدا ..أنى يستجاب لها حملوها إلى مصحة عقلية لا تزال تعالج فيها إلى الآن ..ما زالت تهلوس بالقمر الذي أفل قبل أوانه ..أما الأب فجلس في بيته المنيف لا يزور ولا يزار...شقت الدموع مجريين على خديه واضحين للعيان ................



تمت
بقلم
سمر نزال



مجموعة قصصية بعنوان (( أشرقت ))

v   القصة الأولى  ( التحدي )
v   القصة الثانية ( ثمن الغربة )
v   القصة الثالثة (أريد والدي )
v   القصة الرابعة ( ماجد ذكرى باقية )
v   القصة الخامسة ( لا أحب القيود )
v   القصة السادسة (قلب لن يموت )




القصة الاولى (( التحدي ))


استيقظت فزعة على دقات الساعة التي لا تهدأ و لا تتوقف , اتجهت إليها بعنف تحاول إيقافها , لكن هيهات هيهات للزمن أن يقف أو يسمح للغير أن يوقفه , تحركت ببطء  لتنظر من شرفة غرفتها تحاول أن تلتمس من يخفف عبء الهموم التي تجيش في صدرها , لم تر سوى ليل بهيم و هدوء سقيم يخيم على من حولها ..و قطة تنوء تمشي بخطى مثقلة , نظرت إليها بدقة و كأن القطة شعرت بمن يراقبها .. فأسرعت و اختفت عن الأنظار .. قالت في نفسها ..(( إلى متى ستظل صورته رهينة قلبي .لماذا وجب علي كل هذا الألم .. لماذا لا أرضى بما كتب لي .. نعم كانت بيننا علاقة حب ظننت أنها أبدية .. كنا نحلم بكل شيء , عشنا عالما كالأسطورة أو قل من الخيال ... و ما كنت للحظة واحدة .. للحظة واحدة .. ما كنت أظن  أننا سنفترق )) .. استيقظت من غفوتها على صوت منبه من جهازها النقال .. لقد عبأت الساعة في هذا الوقت المحدد حيث أنها ستصلها رسالة من بعد المنبه بدقيقة واحدة .. و ما زال المنبه يعمل و يدق ويرن  كما ضبطته من شهور .. و لكن مدد الرسائل وقف منذ زمن بعيد ..هي تراه بعيد رغم أنه قريب .. هي حزينة في ذاتها .. هي أرادت ذلك . كان يسعدها .. كثيرا.... نقشت صورته في كل مكان .. على جدران قلبها ..على حائط غرفتها حتى  على نافذتها.. . في كراساتها .. هي تعشق الرسم ..كان دائما  يمدحها ..(كم أحب مداعباتك مع ريشتك ) رغم أنه لم يرها كان يقول لها أنها في قلبه  , كثيرا ما كان يردد هذه العبارة و كثيرا تجد نفسها  تحلق في الفضاء عندما تسمع هذه العبارة , فتكثر من الرسوم تأكيدا لما يقول و كأنها تقول له اسمعني أكثر فما تقوله مدادا لحياتي .. أريدها أكثر .. كان حنونا معها جدا احتواها بحنان .. كان بالنسبة لها أما و أبا و أخا كيف لا و هي طفلته المدللة كما كان  يقول .. كانت تراه دائما يسير بخطى ثابتة نحو مدرسته .. و كبر و كبرت نظراتها له .. و نمى حبه في قلبها ..هو لم يرها مطلقا ..فقط من خلف نافذتها رأى بريق عينيها    نمت مشاعر المحبة عبر أسلاك الهاتف .. بضربة زر غير مقصودة كان ردها على الهاتف ..لتختلط مشاعر غريبة عجيبة منذ البداية حاولا ألا يكملا..لتمسك كل منهما بعاداته و تقاليده .. و لكن المرة الثانية كانت أقوى تأثيرا.. فقد تدخلت وساس الشيطان لتجعل الحرام حلالا ..ماذا سيحدث إن كلمته .. و ماذا سيحدث إذا كلمها .. مجرد كلمات ..لا تضر ماذا سيحدث ..صغرت في أعينها الخطيئة و كبرت معها المشاعر ..هي كانت مشاعر مالبثت إلى أن اتقدت نارا..فرحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة بل بكلمة أو همسةأو حتى زفرة أو نفثة أولى .. هكذا لعبت حرارة الهاتف لعبتها  مع الاثنين هو لم يرها و هي حاولت مرارا أن تراه فمرة تصيب و مرة تخيب و لعب القدر لعبته  ..كيف لا و هي ابنة الجيران ..و هو ابن الحارة التي تسكن فيها لذلك كانت تسترق النظر برؤيته كان يعلم تماما أنها تراه..
كيف لا و هو من كان يسهل لها أن تميزه من بين أقرانه ..لكن هو اكتفى بنشوة الذكورة في ذاته لقد اختارته من بين الكثيرين لتسلط الضوء عليه .. عليه هو ..هو فقط ..هو لم يفكر يوما أن يلتقيا مرة خارج المنزل كما يفعل العشاق ..هو أبدى محبة لها .. و عناية لمشاعرها ..هي تصغره بعدة سنوات ..لا بأس المهم أن يهتم كل منهما بالآخر ..اهتماما يحيطه من كل الجهات .. فمجرد  أن تشعر أنك محور اهتمام شخص ما .. هذا يصل بك إلى النجوم لتعانقها بل قل إلى السحب لتمرح معها بل قل هذا الاهتمام يجعلك تمرح مع نسمات الهواء  ..تنتقل كريشة بيد فنان يعبث بها كيفما يشاء ..  عادت ثانية إلى هاتفها ..تنظر إليه بإشفاق تسائله ..أين صوت من أحب ؟ تكلم ؟؟أين أنت يا أنا ..ألم يضنك البعاد ..طال الغياب أين و متى اللقاء؟؟ ....كيف أذنت لجسدك أن تهجر روحك ..كل هذا الوقت ..شهور هو هذا الأسبوع الذي لم أسمع صوتك فيه .. و بينما هي تبحر في خيالها ..و إذا بصوت الباب يطرق ...من هناك؟؟تسأل هي ..فجاءها صوت أختها الحنونة الكبرى حنان.. اسم على مسمى .. أأدخل ؟؟ فردت سلمى ..أمثلك يستأذن؟؟  ادخلي يا حنان ..دخلت  الحنان ممشوقة القوام ذات الشعر الفحمي الطويل تربطه بشريط أخضر ..تحب اللون الأخضر ..رمز الحياة ..حتى غرفتها فقط صبغتها باللون الأخضر ..  حنان كلها حياة و حيوية و نشاط ..ماذا تفعلين يا سلمى .. لا شيء يا أخيه .. هل أنت مستعدة لنا موعد مع الطبيبة أخبرتك بالأمس عن الموعد   .. لا لا أريد الذهاب ...سئمت منهم يا حنان لا أريد الذهاب ثانية كلهم كاذبون .. ماذا تقولين يا سلمى ؟؟؟ هم ليسوا كما تقولين .. إنهم ملائكة الرحمة فردت غاضبة..رحمة رحمة ..عن أي رحمة تتحدثين ؟؟ سئمت كلامهم سئمت تحاليلهم ..نفس العبارات يكررونها ..لن  أذهب معك يا حنان اتركيني و شأني أرجوك فأنا متعبة جدا جدا روحا و جسدا .. ستتأخرين عن جامعتك ...لا تهتمي بي أرجوك .. دعيني و شأني ..هل ذهب علي للمدرسة ..نعم ذهب جاءته الحافلة منذ ساعة .. هيا يا سلمى هداك الله .. فحالك لا تسر منذ أسبوع ..(آه  لو تدرين ما بي يا حنان لما نظرت إلى نظرة الحب التي أراها بعينيك الآن ) تحدث سلمى نفسها .. هيا  يا سلمى السيارة تنتظرنا أنا في الخارج سأبعث الخادمة لأخذك .. قلت لن أذهب ... لا تنتظريني ..أرجوك ...لم أنت مصرة ...على أخذي هذا الأسبوع لتؤجل الموعد الأسبوع القادم أعدك أن أذهب معك ..
تركت حنان المكان بعد إلحاح شديد من سلمى ..أدارت ظهرها لها بعد أن رمقتها بنظرة غاضبة كلها دهشة .. تتمتم لا أدري إلى متى يهمل الإنسان في صحته  لا أدري إلى متى هذا العذاب ..؟؟ لا أدري و طرقت باب الغرفة بعنف ..أزعج سلمى أدارت سلمى عجلات كرسيها المتحرك لتذهب هناك لتعانق النافذة .. فمرة ترمي نظراتها إلى الهاتف و مرة هناك إلى نهاية الشارع علها ترى طيفا من بعيد ..تعلل النفس بعسى.. و مر اليوم ثقيلا ..بطيئا .. حزينا
عادت إلى سريرها.. محاولة جاهدة أن ترفع نفسها بنفسها لترتاح على السرير .. نجحت ولكن بعد محاولات كثيرة يائسة ..رمت نفسها على السرير و ذهبت في نوم عميق .. كيف لا؟؟ و هي لم تذق طعم النوم لأيام ... قالت في نفسها لم أره في اليقظة ربما أراه في أحلامي .. أغمضت عينيها و راحت في سبات عميق ... و استيقظت على رنين الهاتف مذعورة .. تستعيذ بالله مما رأت في أحلامها ... استيقظت منزعجة جدا... و ما إن  فتحت عينيها حتى غمرتها رائحة منعشة ملأت أنفها وأحاطت أركان الغرفة .. يا إلهي ما هذه الرائحة؟ .. ما مصدرها ؟..رفعت رأسها تتبع مصدر الرائحة ..فإذا بباقة ورود كبيرة بجانب سريرها ...   أذهلتها المفاجأة ..ورود في غرفتي ..من أين لي بها ؟؟ ما أجملها ..ألوانها رائعة..يالجمالها أكثرها ورد الجوري الأحمر تحيط بها الورود البيضاء يتوسطها وردة بنفسجية كبيرة رائعة اللون ..كل ورقة فيها محاطة بسياج وردي ...في قمة الروعة تنقلت ببصرها إلى عجائب قدرة الله في خلق الورود لتقول سبحان من صورها ..كل شيء في الكون يدل على أنه واحد أحد ..سبحان الله..رن منبه الساعة..   نظرت إلى هاتفها فضحكت.. نعم إنه رنين المنبه ..كالمعتاد ..رن المنبه فقط و ما رن بعده شيء ..عادت لتنظر للورود منبهرة ..من يا ترى وضعها؟ ..من يا ترى أهداها لي ..لابد أنها من شخص يحبني .. نظرت إلى نافذتها الليل يكسو المكان..متى ستشرقين يا شمس لأسأل أختي أو الخادمة من أحضر هذه الورود لي ..أغمضت عينيها لترى صورة من تحب في خيالها يمرح ..فتحت عينيها ثانية لتختفي الصورة هي لا تريد لها أن تختفي هي تتمنى أن تحقق الأحلام ..و لكن هيهات هيهات ...
استيقظت لتنعم برائحة الورود.. فكيف ستعود للنوم ثانية؟ فتحت الصندوق الذي بجانب سريرها ...لتخرج الصوف و السنارة لتكمل القميص الذي بدأت فيه منذ أسبوع... شيء تتسلى به هي تحب أن تصنع شيئا من لا شيء ..لم تستطع مسك كرة الصوف فتدحرجت على الأرض فحاولت أن تمسكها عبثا لكن محاولاتها ...جميعا باءت بالفشل ..نظرت لكرسيها فكان بعيدا عنها ..ماذا ستفعل؟كم مرة قلت للخادمة أتبقي الكرسي بجانب السرير هذه الخادمة سأقوم بتبديلها لقد سئمت من تعليمها هي لا تفهمني أبدا .. .. هذه المرة سأعتمد على نفسي ..  حاولت أن تنهض فما استطاعت لتحجر قدميها هي أراحت قدميها ولم تطلب منها أن تعمل فاستكانت القدم وذهبت في سباتها العميق رافضة محاولات حنان لها بالعودة ..
وأخيرا وضعت قدميها على الأرض ..حاولت إمساك كرة الصوف..حاولت و لكن الكرة ابتعدت كلما اقتربت يد سلمى منها ...سقطت على الأرض سلمى ..تعلقت بحافة السرير..حاولت النهوض..فسقطت مرة أخرى حاولت ثم سقطت..سقطت و انهمرت الدموع من عينيها غزيرة..لأول مرة تعيش هذا الصراع.. الذي حاولت جاهدة ألا تدخله مع نفسها .. منذ أن جلست على هذا الكرسي ..سقطت فتعلقت بالمفرش الذي كان تحت باقة الزهور.. و سقطت باقة الزهور عن الطاولة التي بجانب سريرها ..تناثرت الورود على الأرض ..أبكاها منظر وردها المتناثر..أبكاها ما حدث حولها..زهور متناثرة و صوف هارب و هي على الأرض بلا حركة..و من بين ضباب دموعها وقع نظرها على رسالة بين الزهور..مسحت دموعها بكفيها وفتحت عينها أكثر لتتأكد مما تراه ..نعم إنه ظرف رسالة..زحفت لتصل إليه..
و أخيرا وصلت إليه .. نظرت جيدا ..تفحصته وقلبته يمنة ويسرى ..ظرف محكم الإغلاق..حاولت فتحه بعناية حتى لا تمزق ما بداخله..   يا إلهي رسالة..حقا إنها رسالة و لكن ممن يا ترى ؟! إنها مبللة بالماء فقد وقع كأس الماء الذي بجانبها على الزهور..و عليها ..حاولت فتحه..بيد مبلولة..وأنامل مرتعشة... حاولت عبثا فتح الرسالة .. لم تفتح إلا بتمزيق أطرافها..مزقتها بلطف شديد و أخيرا فتحتها ..و إذا برائحة عطر ذكورية تنبعث منها..يا الهي ..رفرف قلبها كالجريح فقالت له يا قلب اتئد..كيف يهدأ ؟؟و هو يرى شيئا عجيبا غريبا ما عهدته مسبقا ..رائحة الظرف تشبه رائحة عطر والدها رحمه الله ..كانت آخر رائحة عطر ذكوري شمته قبل الحادث بساعات ..كان والدها وسيما ..رجل معروف بدماثة خلقه ..إنه صاحب أكبر شركة سيارات في المدينة بأسرها ..كان محسودا رغم حبه لعمل الخير مع الجميع ..يسارع بتقديم المساعدة لأقربائه رغم جفائهم و حقدهم عليه..دائما كان يكرر أريد أن أكون محسنا لا مكافئا كل يعمل بأصله..طيب القلب حنونا..من حنانه ..جاءت حنان الأخت الكبرى و لأنه بارا بوالدته سمى سلمى على اسم أمه و علي على اسم والده ..نقطة ضعفه حبه للانطلاق ...منطلقا في مشاريعه حد المجازفة متوكلا على الله و الله رازقه..منطلقا في حب الخير.. يده البيضاء طالت البعيد قبل القريب..أحب أمي كثيرا ..و من لا يحب أمي..تلك الزوجة التي ينطبق قول الرسول صلى الله عليه و سلم إذا نظرت إليها سرتك ..ولود ودود .. لذلك اجتمعا على الحب و المودة و افترقا معا في حادث سير..أثناء طريقهما إلى المزرعة حيث قد حان وقت الحصاد..لا أنسى تلك الليلة قاما بتقبيلنا جميعا بعد أن...تناولنا العشاء سويا ..كان دائما يقول لي لابد أن تشتركي بسباق الماراثون فلديك ساقان طويلتان ... أجمل شيء ورثته عن أمك ..ضحكنا كثيرا ..نمنا و الابتسامة على الشفاه لا تفارقنا ..ما كنت أظن أن وراء كل ابتسامة دمعة و وراء كل فرحة ترحة ...استيقظ والدي صباح ذلك اليوم ..بعد إعلامنا على العشاء ..أن وقت حصاد الثمار قد حان سيخرجان صباحا بعيد الفجر .. فهواء الفجر المنعش..كله حيوية و نشاط ..ليقوما بتوزيع المحصول على المحتاجين و الفقراء كالمعتاد ..كثيرا كنت أقول له يا صاحب السيارات مالك و المزروعات ؟..ما سر اهتمامك بالزرع يا والدي ؟..ويحك يا سلمى ..الزراعة طريق لجمع الحسنات ..جمعا لا يعمله إلا الله ..ثم إنها مزرعة والدي و قد أوصاني كثيرا عليها..إنها امتدادا له ..و ذهب والدي بعيد الفجر مع أمي حبيبتي التي كانت تحيطني برعايتها الخاصة جدا لي لشدة شبهي بها..مما أثار غيرة أختي مني..كثيرا ما  كانت تكرر سلمي مني و أنا منها ..شبيهتي صاحبة القوام الممشوق ..كانت تمشط شعري بيديها و توصلني إلى الحافلة التي فضلتها على سيارتنا الخاصة لحبي لصديقاتي ..و فركوب الحافلة صباحا يضفي جوا من المرح الذي أحب  ..كانت تحرص على وضع شطيرة الجبن التي أحب في حقيبتي ..
و كثيرا ما تردد ..إياك أن تنسي الفطور يا حبيبتي يا سلمى كلماتها مازالت ترن في أذني ..كم أهواك يا أمي..أين أنت يا أماه؟..كم أحتاج لحضنك الدافىء..كم أحتاج للمسة يديك تداعب خصلات شعري..قدماي يا أماه ما عادت لهما الحياة..بعد فقدي لك..ذهبتما بعيد الفجر و إلى الآن ما عدتما و جاءنا خبر الحادث المفجع الذي أودى بهما سويا..و كأن القدر شاء أن يظلا رفيقين في الحياة و الممات ..سمعت الخبرو أنا عائدة من مدرستي عند أول خطوة أخطوها في ردهات المنزل..لتكون الخطوة الأولى و الأخيرة..فما عادت قدماي  تقوى على حملي وجدت الحزن و الهم..قد سكنا قدماي الجميلتان حتى الثمالة ..مسحت دموعي بكفي لم كل هذه الذكريات جاءت الآن على خاطري.. نظرت إلى يدي  فإذا بالرسالة بين أناملي  أتلو ما فيها..و يا لمفاجأة ما أقرأ..(( أعتذر حبيبتي لن أعيش مع مقعدة وداعا لا تنتظريني بعد الآن ))..تمنيت أنني جاهلة أمية لا تعرف القراءة ..تمنيت حينها أنني لا أرى ما رأيت..تمنيت أنني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ....ورودا بيضاء و حمراء و فيها كلمات لفظها الأفعى سما قاتلا في سويداء قلبي ..كيف رآني؟؟ متى رآني ؟؟ كيف لم يخطر ببالي أن ذلك ممكن الحدوث ..كم كنت غبية..كيف تناسيت أنني مقعدة..ياااااه ..كم  غطى هواك على بصري.. يا لها من صفعة مؤلمة قوية أيقظتني من سباتي..كم كانت مؤلمة ..أنا مقعدة ..و هو لن يعيش معي ..و لكني لست مقعدة ..لست مقعدة .من قال أنني مقعدة ؟؟أنا من ترفضه لا هو من يرفضني  ..بدأت أزحف هنا و هناك كالسلحفاة تبحث عن شيء ما..أحاول جاهدة تحريك قدماي فما استطعت ..خاطبتهما تحركا..تحركا...و لكن هيهات هيهات ..نظرت للورود راتها سوداء كالحة..نظرت للهاتف رأيته حجرا  أخرسا ..نظرت للنافذة و جدتها قضبان حديد ..كل ما حولي ..يطبق على صدري أكاد أختنق ..أختنق ..هواء الغرفة أشعر به سموما تطبق على صدري زحفت حتى وصلت إلى باب الغرفة ..السكون يخيم على المكان ..الكل في سباته العميق ..إلا عيني فما ذاقتا طعم النوم ..فتحت الباب بصعوبة شديدة ..زحفت للخارج  لاهثة وصلت للدرج حاولت الوقوف فما استطاعت ..حاولت مرة أخرى..اقتربت أكثر من حافة الدرج ..اقتربت أكثر..أكثر..انزلقت يداها..فتدحرجت على السلم ..هذا آخر شيء تتذكره ..وجدت نفسها على سرير أبيض و حولها ملائكة الرحمة كما يسمونهم.. شاشة بيضاء على الرأس و على القدم و شاشة تلف الأيدي..أين أنا؟؟..و إذا بأختي الحنون نائمة على سرير بجانبي ..أين أنا ؟...قفزت أختي نحوي ..هل أنت بخير يا سلمى ..أين أنا؟؟.. من أحضرني إلى هنا ؟؟..آآآه يا رأسي كم يؤلمني  ..ما الذي حركك عن سريرك يا سلمى ؟؟كيف وصلت إلى باب غرفتك؟؟كيف فتحتها؟؟و كيف وصلت للممر ؟؟كيف وصلت إلى الدرج؟؟..أسئلة هوجاء عصفت بي في يوم مؤلم..ما مر علي مثله قط..نظرت إلى حنان فما وجدت فيها الحنان ..أنظر إلى عينيها تقدحان شررا ..و فاها يتحرك يمنة و يسرة ..يداها تلوحان في الهواء ..أنظر ولا أرى..أسمع ضجيجا..و لا أفهم منه شيئا و عدت في سبات عميق..فتحت عيني ثانية بصعوبة..لأرى ضباب شخص يقف أمامي..هل أنت بخير؟! هل أنت بخير ؟؟...تسمعينني ..أغمضت عيني و أجبت سائلي نعم أسمع ..أسمع ..أنا بخير..خرجت الحروف بطيئة في سيرها ..زاحفة من فمي..بصعوبة قلتها..حقا كم أنا متعبة ..نظرت إلى آخر سريري لأرى وجوها غريبة تجلس أمامي و الابتسامة مرسومة على شفتيها ..تبدو سعيدة ..ما سر سعادتها؟؟.. لست ادري ..نظرت يمنة و يسرى و إذا بأختي تحتضن يدي ..ابتسمت..عاد الحنان إلى حنان رمقتني بابتسامة ناعمة كما عهدتها و أشبعتها بقبلة على جبيني ..كم كانت دافئة حمدا لله على سلامتك أيتها الغالية ..لم أحطتنا بسياج القلق عليك يا أختاه.. رددت قلق؟! أين أنا يا حنان و ما الذي جاء بي إلى هنا و لم كل هذه الشاشات تلتف على يدي و قدمي ..آه كم تؤلمني قدماي ..ما إن انتهيت من جملتي الأخيرة حتى علت ضحكة مسعورة أرجاء الغرفة زلزلتها ..وزلزلت من فيها ..هجمت أختي على الطبيبة هذا يبشر بالخير...أليس كذلك أيتها الطبيبة..فأومأت الطبيبة برأسها أن نعم...إنه يبشر بالخير..عن أي خير تتحدثين؟؟...عادت حنان لتسقيني الحنان ماذا قلت يا سلمى...بماذا تشعرين الآن؟؟..ماذا يؤلمك؟؟..شعرت أنها تريد سماع جملة محددة..محددة مني..لنطير فرحا..و يحدث الزلزال ثانية و لكني أشفقت على من حولي..أومأت لها برأسي فجاءت أذنها لتلتصق بفمي...أضحكني تصرفها..هكذا هي حنان تحب المرح و لا للترح شعار أخذته على نفسها ..كن سعيدا ترى الوجود سعيدا ..و كن جميلا ترى الوجود جميلا ..هي دائما سعيدة..ترسم الابتسامة على شفتيها تزرعها رغم أمطار العيون المستمر على حالي..أبعدتها قليلا عن شفتي..و همست قائلة..قدماي تؤلمانني ..فما إن سمعت هذه العبارة حتى اختلطت الدموع بالضحك بشكل هستيري..كم كنت أحب سماع هذه العبارة..سنوات مرت و أنا احلم بهذه العبارة كم تمنيت أن اسمعها منك..مع كل رحلة علاج..كم كنت بخيلة علي فقط حروف تخرجني من حلق الضيق إلى فسحة السرور..ماذا أرى ..الغطاء الأبيض يتحرك ..نعم حركة بطيئة و لكن دبت الحياة لمن كتبت سلمى له الممات رغم أنه باق على الحياة ..لا يموت بموت الأحباب ....و تخرج الآهات كزغاريد عرس ترن في أذني...آآآه تؤلماني كثيرا يا حنان..تخرج حنان مسرعة..تنادي الطبيبة التي خرجت فقط من دقائق معدودة ..تعود بها ممسكة إياها بشدة خوفا عليها من أن  تهرب..انظري أيتها الطبيبة إنها تحرك قدميها ..تبتسم الطبيبة ابتسامة القائد الماهر الواثق بجنوده الأغوار ومؤمن بالانتصار في نهاية المعركة..كنت أعلم أنها ستحركها كنت على يقين أن الحياة مازالت فيها ..حركيها قليلا يا سلمى ..
تحاول سلمى تحريك قدميها ...و لكنها تؤلمني يا طبيبة..لا باس يا سلمى ألم بسيط ..ألم لابد منه صدقيني هي سعيدة جدا بهذه الحركة..لقد حركتها منها رغما عنها ...و ها هي تكافئك على العودة..و لكل منا طريقته ..انتقلت الابتسامة منتشية راقصة على الشفاه ..و أنا انظر إلى لمسات الحنان التي تداعب بها الدكتورة قدمي نظرت إلى أصابع قدمي و كأني أراها الآن فقط ..أنها تتحرك ...فما أجمل حركتها ..لمسات حانية بدأت الدكتورة تنقلها..و الابتسامة تعلو الوجوه...آآه  يا رأسي كم  يؤلمني...أسرعت الممرضة بكوب ماء و معه حبة دواء و تناولتها بهدوء و يسر..و ما هي إلا لحظات حتى عدت إلى سباتي...
و على رنين هاتفي استيقظت..نظرت إلى هاتفي ..و ضحكت..أما زلت على حالك يا هاتفي...و ضعت رأسي على وسادتي و دارت الأحداث في مخيلتي..أجمل ساقين ...ثم جمدتا..و ها هي تعود الحياة الراقصة لهاتين القدمين...دبت فيهما الحياة كما دبت في هاتفي شكرا يا هاتفي المحمول ..ما عدت مهتمة برنينك ثانية...سأبدأ الحياة من جديد حياة هجرتها..بل قل وأدتها بيداي..أمي أبي...سامحاني...غيابكما عني أدماني ..و لكن و عدا أنني سأعود كما عهدتماني ..حنان..حنان..و جاءت حنان تهرول و الابتسامة ترقص على محياها ..ماذا تريدين يا حبيبتي؟؟.... متى سنخرج من المستشفى؟؟متى؟؟حقا متى ...يا دكتورة ..يا دكتورة..جاءت الدكتورة مسرعة ماذا هناك ؟ ماذا حدث؟؟ متى ستخرج سلمى من المستشفى؟؟  نظرت الدكتورة إلى سلمى ثم تابعت النظر إلى قدميها ...ثم قالت..متى تحب سلمى؟؟ فالأمر منوط إليها ...فرددت سلمى :الآن أريد الخروج الآن رددت سلمى  ..لا بد أن أعوض كل ما ضيعته..أضعت الكثير..الكثير..كيف سأتابع جامعتي يا حنان؟؟..... وقعت الجملة كالصاعقة على مسامع حنان...ماذا تقولين ؟؟؟الجامعة؟؟..... حقا تريدين إكمال جامعتك؟؟ ويحك يا حنان و هل تظنين أنني سأظل رهينة المحبسين؟؟..غرفتي و كرسيي..مللتهما كلاهما..هيا هيا..فالطريق طويل و العمر قصير..و كفانا عبثا..سأخرج اليوم ..لابد من الخروج هيا هيا ...نظرت سلمى إلى قدميها تحاول تحريكهما حنان تنظر بحذر شديد تنظر بأمل و سلمى تحول جاهدة بكل ما أوتيت بقوة...بجهد كبير حركت قدمها الأولى و بجهد أكبر حركت قدمها الثانية و كأنها تحرك جبلا من مكانه .. الجبل لا يتحرك و لكنها هي بإرادتها حركته..أغمضت عينيها و خرجت زفرة عميقة من أحشائها ...دموع ذرفتها مقلتيها حاولت إخفاءها عيثا..احتضنتها حنان بكل حنان و شاركتها البكاء .. لا تيأسي يا سلمى محاولاتك مكللة بالنجاح ..هكذا عهدتك ..إرادة تناطح السحاب ...همة عالية استمري...تابعي ..تعيد سلمى محاولاتها...و أخيرا نجحت...هاهي تحرك قدميها..نعم بصعوبة بالغة ..و لكنها تستمر..
يا إلهي للمرة الأولى تلامس قدميها الأرض..اشعر بقشعريرة تسري في جسدي ...تسرح قليلا ..تفكر..متى آخر مرة لامست قدمي الأرض؟؟ دوار يصيب رأسها ...أين أنت يا أماه..كم أفتقدك..تمسك حنان  بذراع أختها و تمسك الطبيبة من الجهة الأخرى ...ها هي سلمى تخطو بخطواتها الأولى على الأرض التي خاصمتها منذ زمن ليس بالبعيد..ها هي تصافحها بعد غياب ..لقاء الآبق بسيده  و ها هي تسير....نعم في مكانها تسير..و لكنها محاولات رائعة تستحق الشكر و الثناء ..لابد أن أتابع المسير كفاني..تراجعا...و ما هي إلا أيام لتعود سلمى مصافحة جدران الجامعة لتعلنها واضحة جليه ..لابد لليل أن ينقضي ولابد للقيد أن ينكسر ..قوبل عودتها إلى الجامعة  بترحيب كبيرمن أساتذتها و رفيقاتها و ها هي تعود ...تعود للحياة ثانية ...ترسم ابتساماتها على دفتر محاضراتها ..تستقبل يومها بصدقات جارية..عادت لتكمل مسيرتها...كم هي متميزة..الجميع يحب وجودها..تضفي جوا من السعادة و الهناء على المحيط الذي تتواجد فيه...و مرت الأيام سريعا..تصافح نجاحاتها الباهرة..صورة والديها لم تفارقها ...في كل خطوة تشعر بسرورهما بها..و جاءت لحظات السعادة تلفها و هي تجلس في غرفتها تحاول أن تلتقط أطايب الكلام ماذا سأقول لأساتذتي ؟؟...في هذا اليوم.... ماذا سأقول لزميلاتي؟؟ ماذا سأقول لأحبتي ...جلست تداعب خصلات شعرها الحريري المنسدل على كتفيها ...تحاول أن تبعده عن عينيها السمراويتين..تفكر...تفكر و تفكر..تحدق في غرفتها تنظر إلى نافذتها..تسرح..تسرح كثيرا كثيرا..تنظر إلى سريرها...تنظر إلى زاوية الغرفة..ماذا ترى إنه كرسيها المتحرك تتساءل لم مازلت هنا؟؟ ..يا لندا ..لندا..تهرول خادمتها إلى حجرتها نعم سيدتي ماذا تريدين؟؟لم هذا الكرسي قابع في زاوية غرفتي؟؟أما آن الأوان أن يختفي من هنا..هيا هيا..لا أريد أن أراه هنا ثانية..أسمعت ..حاضر حاضر ..أكيد لن ترينه ثانية ..تحركه الخادمة ..ترمقه بنظراتها..هي حزينة من أجله..فالعشرة لا تهون عليها ..و لكن هي لا تحبه ..لا تحبه لأنه رمز الجمود الذي كرهته ..رمز الخذلان ..إنه الضياع بعينه ..هيا اخرج .. اخرج من هنا لا أريد رؤيتك ثانية ..اخرج و تصفع الباب بقوة ..و تتناثر الدموع على و جنتيها..لآلىء مضاءة تنحدر بلا انتظام ..ضباب كثيف غطى رموز الورقة التي تخط فيها كلمة التخرج ..و تمسح دموعها بأناملها المرتعشة ..و تمسك القلم لتحاول الكتابة ..تتراقص الكلمات بين أناملها ... ترص حروفها لتكون عبارات تليق بمثل هذا اليوم المميز ...تنظر لخزانة ملابسها لتختار ما ستلبسه في ذلك اليوم الرائع ..لا لا هي لم تعد تحب اللون البنفسجي ..
أشاحت بوجهها بعيدا عنه و اختارت الأزرق فأمواج البحر تعشقها حتى الثمالة ..كيف لا؟ و نزهة البحر كانت دائما جائزة من ينال الدرجات العليا في المدرسة ...هكذا اعتاد الأبوين مكافأة أبنائهم ...نزهة إلى البحر ..ما أجمل البحر !...لماذا يقولون أنه غدار ؟؟ لا أدري .. و ترتدي الثوب البحري بأمواجه الزرقاء و ترتدي وشاح التخرج ...و تظهر على خشبة المسرح كأميرة البحر حورية ترقبها الأبصار ..و تبدأ بالكلام ... و كأنها شهريان تسرد قصة الكفاح ..كلمات ليست كباقي الكلمات ..الكل مشدوه بما يرى و ما يسمع .. و ما إن انتهت من كلماتها العذبة حتى علا تصفيق حار حار جدا ..لفت نظر الجميع ...هي شد انتباهها كثيرا ..نظرت باستغراب من هذا الذي هز القاعة...القاعة بالتصفيق .. تبعت الصوت ..بعينيها ..دققت النظر ..من هذا الذي أبهرته كلماتها ..صفق كثيرا ..هي جمدت في مكانها ..أذهلتها المفاجأة ..هذا الذي يقف وسط الجمهور ..تعرفه ..تعرفه جيدا..يا إلهي إنه هو ..هو من خلف نافذتي كنت أراه كيف لي أن أنساه ..
و ها هي ذي تبحر في عالم ذكرياتها بينما وقف الجميع مشدوها بكلماتها الرائعة ..تصفيق حار عم القاعة ..تهاني و تبريكات تناقلتها الألسنة ..الكل يصافحها و هي ليست هي..غاب عنها وسط الزحام .. خرجت من القاعة مذهولة..ذهبت تبحث عن سيارتها ..و أخيرا وجدتها ..ماذا ترى ..ورود جورية بيضاء تتوسطها وردة بنفسجية رائعة اللون ..تحجرت أمامها..نظرت بذهول ..و لكن انتظارها لم يطل و إذا بصوت حنون من خلفها..(كنت على يقين أنك ستقفين ثانية و ستعود سلمى كما كانت).



تمت
بقلم
سمر علي نزال